عبد المنعم محمد داؤد .. يكتب .. “جيل اللا-انتماء: بين الفردانية والضياع الجماعي”

في زمنٍ لا يزال البشر يحتفلون بالانتماء كقيمة مركزية في وجودهم، يتسلّل جيل جديد إلى الهامش بلا ضجيج. جيل لا يرفع راية قوم، ولا يعتز بدين كما كان يفعل أسلافه، ولا يرى في وطنه إلا خريطة مجزّأة، وحدودًا رسمها تاريخ لا يعنيه كثيرًا. إنه “جيل اللا-انتماء”، الجيل الذي قرر — أو ربما أُجبر — أن يعيش خارج الجماعة، على أطراف اللغة، والدين، والأرض، والأسرة.
لكن، لماذا؟
هل هذا الانفصال الواعي عن الهويات الكبرى هو نوع من التمرّد الخلّاق؟ أم أنه مجرد سقوط حرّ في هاوية العزلة؟
لقد نشأ هذا الجيل وسط ضجيج التحوّلات الكبرى: عالم يشكّك في كل شيء، ويفكك كل يقين. في المدارس، يُدرَّس التاريخ كوجهة نظر. في الإعلام، تُنتَقَد السلطة بلا بدائل. في الدين، يُعرَض الإيمان إما كإرهاب أو كسلعة استهلاكية. وفي المنازل، سقطت صورة الأب القائد، والأم المربية، لتحلّ محلها صورة “الناجون من ضغوط الحياة”.
كبر هذا الجيل وهو يتغذّى على شعارات من نوع “كن كما أنت”، “لا تتبع أحدًا”، “اصنع حقيقتك”، لكنها شعارات جميلة على الورق، وقاسية في الواقع. فهي تطلب من الشاب أن يكون كل شيء… بينما لم يُعطَ شيئًا. لا مرجعية، لا قدوة، لا قصة ينتمي لها.
الوطن، بالنسبة لكثير من هذا الجيل، لم يعد ذاكرة جمعية، بل وثيقة رسمية للحصول على خدمات. وقد تكون الصلاة، أو القيم الدينية، مجرد إرث صوتي لا يلامس القلب. أما العائلة، فلم تعد دائمًا حضنًا آمنًا، بل أصبحت أحيانًا مصدر ضغط أو صراع. ومن هنا، يبدأ الانفصال: انفصال ناعم، صامت، لا يُعلَن، لكنه عميق كخسوف داخلي.
ووسط هذا الفراغ، ظهرت هويات بديلة: الانتماء لمجتمع رقمي، لجماعة “مؤثر”، لفكر تحرّري، لصرعة موسيقية أو نمط لباس. لكنها انتماءات سريعة الذوبان، لا تقف صامدة في وجه الخوف، ولا تمنح الطمأنينة في لحظات الوحدة، ولا تصنع قصة حياة حقيقية.
إنّ أخطر ما في هذا اللا-انتماء، أنه لا يُعلَن كمشكلة. لا يُتحدَّث عنه صراحة. بل يُزيَّن أحيانًا كمظهر من مظاهر الاستقلال. يُقدَّم على أنه تحرّر من القطيع. لكنه في عمقه، يُخفي قلبًا يبحث عن دفء لم يجده، عن “نحن” لم تتشكّل، عن لحظة انتماء واحدة صادقة وسط هذا الزيف كله.
هل نحن أمام جيل يخلع كل ما وُرِّث له من انتماءات ليصنع انتماءه الخاص؟ أم أننا فقط نعيش لحظة سقوط الجماعة، وانتصار الفرد الممزق؟
إنه جيل لا يجد نفسه في خطب الجمعة، ولا في الشعارات السياسية، ولا في كتب التربية التقليدية. جيل يتقلّب بين الهويات، دون أن يجد هوية واحدة تحتمل البقاء. جيل يعرف كيف يصرخ، ولا يعرف لمن.
لكن لعلّ أجمل ما في هذا الجيل، وأخطر ما فيه، هو أنه لا يُشبه أحدًا.
جيلٌ يولد من رماد المعاني القديمة، ويحاول أن يكتب تاريخه بلا ورق، ولا حبر، ولا وطن واضح.
فهل نستطيع أن نعيد بناء المعنى، لا بفرض الانتماء، بل بدعوةٍ صادقة للفهم؟
هل يمكننا أن نصنع فضاءً جديدًا، تنتمي إليه الأرواح قبل الأجساد؟
ربما لا يحتاج هذا الجيل إلى خطاب جديد، بل إلى من يصغي له دون خوف، ويمنحه فرصة أن يُعيد تعريف الجماعة… لا أن يعود إليها صاغرًا.