في ولاية الخرطوم .. العودة الطوعية… هل تصلح ما افسدته الحرب؟

وزير الصحة ينصح بالتريث وعدم استعجال العودة الطوعية للأسر بالعاصمة
موظفون يستنكرون مطالبة حكومة ولاية الخرطوم بعودتهم!
ياسر العطا : اعادة إعمار الدمار بالخرطوم يفوق امكانياتها!
استطلاع : ندى بدر
بين عشية وضحاها اصبحوا بلا وطن !! انهارت ديارهم ، وأصبحت ولاية الخرطوم التي كان يتغنى الشعراء بجمالها مقبرة كبيرة تحتضن رفات الكثير من اهلها وأحلام من تبقى منهم في العودة إلى الديار .. لم يكن الرحيل باختيارهم ، بل فرضته عليهم أصوات الدانات وطلقات الرصاص ، والآن يجد هؤلاء أنفسهم أمام خيار العودة الطوعية ، فهل حزموا امتعتهم شوقآ للوطن ام ان الظروف الاقتصادية اجبرتهم على العودة إلى ما تبقى من ديار في ظل انعدام كل معينات الحياة ؟؟بعض التساؤلات ووجهات النظر حول هذا الموضوع نستعرضها في المساحة التالية ….
اعادة اعمار !
مئات الأسر التي اجبرتها الحرب بين الجيش والدعم السريع على الرحيل تاركة خلفها كل ما تملك ، تتوجه اليوم صوب الخرطوم التي طالها دمار لم تشهد له مثيل ، لذا يأتي السؤال هل آن الأوان للعودة الى الخرطوم ؟ وهل يمكن أن تكون هذه العودة مجدية خاصة أن العائدين انفسهم يحتاجون الكثير من الدعم المادي والمعنوي لتجاوز محطة الحرب . الدمار الذي لحق بولاية الخرطوم في عامين من الحرب قد يحتاج إلى عقد من الزمان لاعماره ، وهذا الأمر واضح للعيان ، ولا ينكره إلا مكابر ، وفي هذا الاطار اوضح عضو مجلس السيادة الفريق أول ركن ياسر العطا ان العمل المطلوب لإعادة اعمار الدمار الذي لحق بولاية الخرطوم يفوق إمكانياتها ، ودعا الحكومة الاتحادية لدعم الولاية وإعادة الاعمار . انقسم السودانيون الموجودون خارج البلاد ما بين مؤيد للعودة الطوعية ورافض لها في هذه المرحلة ، حيث أبدى المواطن محمود عباس (لاجئ في ليبيا) استعداده التام للعودة في ظل الظروف الراهنة لافتآ إلى أن وجود المواطن يؤدي إلى إعادة إعمار المنطقة . وعلى العكس تمامآ يرى المواطن عادل محمود (مقيم بالسعودية) أن العودة الطوعية تحمل في طياتها الكثير من المخاطر خصوصآ اذا كان لديك أسرة واطفال ، لن تتمكن من توفير الغذاء والصحة والتعليم لهم ، وحتى ان وجدت هذه الأشياء فلن يتوفر الأمان ، خاصة في ظل وجود هذا الكم من (المليشيا) خارج إطار قيادة الجيش والمتمثل في حركات الكفاح المسلح ، جبهات الشرق ودرع البطانة ، فما الضمان انه لن يتم استنساخ تجربة الدعم السريع مرة أخرى؟ وان حدث ذلك كيف يستطيع المواطن الخروج مرة أخرى بعد أن أصبح معدمآ ؟ ويمكن القول ان الدولة تحتاج لفترة ليست بالقصيرة حتى تتمكن من نشر قواتها والقضاء على اللصوص والمجرمين الذين مازالوا يبثون الرعب في قلوب المواطنين المتواجدين في ولاية الخرطوم .
مشكلة الايجار!
ما أن تم الإعلان عن العودة الطوعية إلى ولاية الخرطوم حتى تدافع الآف السودانيين المتواجدين في جمهورية مصر نحو معبر ارقين حتى اكتظ المكان بهم ، تجدر الاشارة الى ان اكثر من (114) الف سوداني عادوا الى السودان من مصر ، حيث أعلنت الحكومة السودانية عن عدد من التسهيلات لتشجيع الراغبين في العودة من مصر من ضمنها توفير مسار للنقل النهري . يمكن القول أن العودة الطوعية لم تقتصر على المواطنين العائدين من جمهورية مصر ، بل إن هناك كثير من الدول العربية فتحت باب العودة للسودانيين ، حيث أعلنت سفارة السودان بمسقط عن بداية رحلات عودة السودانيين غير المقيمين والذين حضروا إلى سلطنة عمان في فترة الحرب في إطار العودة الطوعية للبلاد . وعلى الصعيد الداخلي فان عدد من الولايات ودعت النازحين مثل ولاية البحر الأحمر وغيرها من الولايات ، وقد شهدت محلية شندي في الأيام الفائتة تفويج ما لا يقل عن (300) نازح في أكبر قافلة للعودة الطوعية لولاية الخرطوم وذلك بعد أن اعلن الوالي خلو (98%) من العاصمة من الدعم السريع . وقد تحدث الينا أحد العائدين من مصر موضحآ أن ارتفاع أسعار الايجار إلى جانب انعدام مصادر الدخل دفع الكثير من السودانيين للعودة ، وأوضح أن شقيقه الذي يعمل في الخليج يرسل له مبلغ شهريآ ليصرفه على والدته واخوته ، وقد حاول مرارآ الحصول على عمل لكنه فشل في ذلك ، واضطر للعودة مع أسرته وسوف يذهبوا إلى منزلهم في امدرمان .احد السودانيين من منطقة شمبات في بحري يقيم الآن في مصر عندما سالناه عن العودة الطوعية أوضح ان صورة جثامين زوجته واخته لا زالت عالقة في ذهنه ، وكانت وفاتهما نتيجة سقوط دانة في أحد اجزاء منزلهم ، وقد حضر مع ولديه واخته بحثآ عن الأمان ، ولن يخاطر بحياتهم بالعودة في الوقت الراهن ، وأضاف أن المبلغ الذي يصرفه للايجار والمعيشة في مصر لن يكفيه اسبوع واحد في الخرطوم مع الغلاء الفاحش لكل الأشياء .
*مطالبة بالعودة!!*
قرارات حاسمة اصدرها الأمين العام لحكومة ولاية الخرطوم للموظفين بمزاولة العمل في فترة اقصاها منتصف يونيو المقبل ، ولمقابلة متطلبات العودة الطوعية أكد والي الخرطوم دعم استئناف كل مؤسسات الدولة لنشاطها من داخل الولاية . ما أن صدر هذا القرار حتى تداولت بعض وسائل التواصل الاجتماعي خبرآ مفاده أن حكومة الولاية ستتخذ إجراءات ضد المتغيبين عن العمل حتى منتصف يونيو ، لكن الناطق الرسمي لحكومة الولاية الطيب سعد الدين اوضح أن تحريفآ قد طال قرار الحكومة الذي ينص على إنهاء الاجازة ، وأكدت حكومة الولاية أن القرار لم يتضمن إجراءات ضد المتغيبين عن العمل . في حديثنا إلى بعض الموظفين حول هذا الموضوع استنكر عدد منهم مطالبة الحكومة بعودتهم وانهاء الاجازة المفتوحة ، وتساءل أحدهم عن الضمانات بصرف مرتباتهم وهل يكفي الراتب للحياة في ظل موجة الغلاء التي تسيطر على كل شئ في ولاية الخرطوم ؟ ونحن ندرك عجز الحكومة عن دفع مرتبات العاملين في أغلب الولايات الآمنة مثل كسلا والقضارف وغيرها ، وهذا نتاج الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه السودان منذ بداية الحرب ، والذي أدى إلى تراجع قيمة الجنيه السوداني حتى أمام عملات دول الجوار ، مع العلم ان جالون البنزين وصل (20)الف جنيه والمواصلات من بانت في ام درمان إلى صابرين في محلية امبدة (3)الف جنيه ومن منطقة شمال بحري حتى وسط بحري (5)الف جنيه ، بمعنى أن ميزانية المواصلات للموظف لن تقل عن مائتي ألف جنيه ، كما أن قطعة الخبز وصلت قيمتها (200) جنيه وكيلو السكر (3)الف جنيه ، وهذا يعني ان الموظف عندما يعود الى ولاية الخرطوم يحتاج إلى راتب مليون جنيه على الأقل حتى يستطيع مجابهة هذا الغلاء .
*عودة المعلمين!!*
في نفس الاطار أصدر وزير التربية والتعليم بولاية الخرطوم، د. قريب الله محمد، مصفوفة إجراءات عودة المعلمين والعاملين بقطاع التعليم لمزاولة العمل بناءً على توجيهات حكومة الولاية . وكانت وجهة نظر بعض المعلمين الموجودين خارج البلاد ان العودة الى الخرطوم في ظل هذه الظروف هلاك يتدثر بالحنين الى الوطن ، وقال احدهم انه ترك مهنة التدريس ويعمل الآن سائقآ في احدى المصانع في مصر ولا يفكر في العودة خاصة انه ومنذ اندلاع الحرب لم يتم صرف مرتبات للمعلمين سوى ثلاث اشهر وبنسبة (40%) فقط ، وقد أصبح المعلم متسولآ يستجدي الأقارب حتى يستطيع تلبية جزء قليل من متطلبات أسرته . وحتى يستجيب المعلمون لنداء الوزارة بالعودة إلى ولاية الخرطوم كشف وزير التربية بالخرطوم عن تعهد إحدى المنظمات بدفع مرتبات المعلمين ، داعيًا إلى تسريع رفع الكشوفات المطلوبة .
*زيرو مياه!!*
طالما رفعت النظم السابقة للحكم في السودان شعار (زيرو عطش) للدلالة على إيصال المياه إلى مناطق كانت تشكو العطش وانعدام المياه ، وفي فترة ما قبل الحرب كانت ولاية الخرطوم في معاناة دائمة من انقطاع المياه خاصة في فصل الصيف ، وهذا ما يدركه مواطن الولاية تمامآ . أما بالنسبة لموقف المياه في الفترة الراهنة ، فقد تفاقمت معاناة المواطنين وأوضح أحد المتواجدين في منطقة شمال بحري أن أزمة المياه مستمرة منذ بداية الحرب ، وقد وصل برميل المياه (15) الف جنيه مع صعوبة في الحصول عليه ، لذا اقتصر استخدام المياه فقط على الشرب ، لأن جميع الموجودين يجلسون في منازلهم بلا عمل أو مصدر دخل ، فمن أين لهم بمثل هذا المبلغ لشراء المياه ناهيك عن الاحتياجات الأخرى .
*تكرار القصف!!*
قد يستطيع المواطن إلى حد ما الاستغناء عن الكهرباء على الرغم من أهميتها ، لكن لا يمكن الحياة بلا مياه . الجدير بالذكر ان ولاية الخرطوم تعتمد على الكهرباء بصورة اساسية في تشغيل محطات المياه ، وقد ادى انقطاع الكهرباء المستمر الى تلك الازمة الخانقة في المياه . الشركة السودانية للكهرباء أوضحت في بيان لها أن التأخير في إعادة الخدمة يعود إلى تكرار عمليات القصف التي استهدفت الشبكة، مما أدى إلى فقدان العديد من الخطوط البديلة اللازمة للمعالجة . وفي نفس السياق أوصت اللجنة العليا للطوارئ وإدارة الأزمة بولاية الخرطوم ، باعتماد الطاقة الشمسية لتشغيل محطات المياه، كحل بديل لانقطاع التيار الكهربائي الناتج عن استهداف المحطات بطائرات مسيّرة .
*انهيار النظام!!
من الطبيعي بعد انتهاء الحرب انتشار الجثث في الطرقات والميادين ، ووجود الأجسام الحربية التي لم تنفجر ، إلى جانب الألغام التي تم زراعتها حول المعسكرات ، وهذا يشكل خطرآ على حياة المواطن ، لذا يجب أن تقوم حكومة الولاية اولآ بالتخلص من كل هذه الأشياء ومن ثم مطالبة المواطنين بالعودة ، خاصة مع انعدام الخدمات الصحية ونقص الدواء في الولاية والذي أدى إلى وفاة نسبة كبيرة من مصابي الحرب والمرضى ، وحتى ان استطاع اقارب المريض الوصول به إلى أحد المستشفيات العاملة يقف نقص الكوادر الطبية والمعدات والأدوية دون حصوله على العلاج . وفي هذا الجانب قال رئيس البعثة الدولية للصليب الأحمر في السودان دانيال اومالي، إن نظام الرعاية الصحية في السودان تعرَّض للانهيار ، وان المستشفيات العاملة والتي لا تتعدى (20%) تواجه نقصاً حاداً في الأدوية والمعدات الطبية والموظفين . وقد اكدت تصريحات وزير الصحة السوداني هيثم محمد هذا الأمر ، حيث أشار في وقت سابق إلى أن (80%) من المستشفيات والمرافق الصحية خرج عن الخدمة إما لوقوعها في مناطق الاشتباكات أو تعرُّضها لضرر جزئي أو كلي . وفيما يختص بالعودة الطوعية إلى ولاية الخرطوم فقد نصح وزير الصحة السوداني المواطنين بالتريث وعدم استعجال عودة الأسر إلى العاصمة الخرطوم حتى انتهاء عمليات إزالة المخاطر والتعقيم ومكافحة نواقل الأمراض وترتيب حملات صحية شاملة .