دكتور الوليد آدم مادبو .. يكتب.. الحجة الدامغة في مواجهة نيران المدفعية الآثمة !
لقد دأبت على كتابة مقالات ظلت متسقة فكرياً ومنهجياً، حسب ظنّي، منذ اليوم الأول في الحرب وحتى ساعتنا هذه بيّنت فيها أن الحياد في هذه اللحظات التاريخية الحرجة هو موقف غير أخلاقي بيد أن الإنحياز لجهة دون الأخرى من المتقاتلين يكون بمثابة المفاضلة بين مجرمين إثنين اسهما في تدمير البنية التحية للعاصمة القومية ولم يتورعا عن إزهاق حياة المواطنين، سرقة مقتنياتهم والتعدي على حرماتهم. إن الانحياز الحقيقي يجب أن يكون للشعب وقضاياه الحيوية التي لن تسعى لتحقيقها الطغمة العسكرية المنفلتة إنما من المفترض أن تؤسس لها القوى المدنية المنضبطة. إن الجهد الذي تبذله النخبة لدعم أحد الفريقين يجب أن يُدّخر لترميم جبهة الصمود الشعبي الذي يسعى لإخراج العسكر من الحياة السياسية ويعمل من ثمّ على تهيئة المناخ لحياة مدنية معافاة لا يعكر صفوها العسف والتشنج وإتقان حيل البقاء في كرسي الحكم إلى الأبد.
إن جيشاً أخفق في حماية المواطنين واكتفى بالتحصن داخل حامياته هو جيش فقد معركته الاخلاقية منذ اللحظة الأولى مثله مثل الدعم السريع الذي احتمى ببيوت المواطنين بعد أن أخرجهم منها عنوة واقتداراً. ثانياً، إن الجيش السوداني هو بمثابة مليشيا قبلية، من حيث الآلية الإدارية والسياسية المتخفية وراء ستار القومية، مثله مثل الدعم السريع الذي انتمت إليه قبائل شتى بيد أن قيادته تتصف بنوعٍ من الانسجام الأهلي والقبلي. ثالثاً، إن الجيش وبعد فقدانه ٨ من فرقه العسكرية و ٨٠٪ من مقراته بات يعّول على حيل التجييش العقائدي إذ لا فرق بين النفير الذي دعى له قادة الإسلاميين والفزع الذي لجأت له قيادة الدعم السريع، وفي ذلك نفياً لمعيار المهنية. يفتقر كلا الفريقين إلى المهنية والنزاهة الأخلاقية أو حتى القومية التي تجعل أيًّا منهما قميناً على التماسك الوجداني للشعب السوداني وحريصاً على كرامته. قد يرفض البعض المساواة بين الجيش والدعم السريع، بيد أنني أرى أن الأول أسوأ وأضل سبيلا بالنظر إلى ممارسته في توريت عام ١٩٥٥ وحتى يومنا هذا.
إن التعدي على الضعين بالطائرات، حرق المسيد، هدم آبار المياه، قصف المستشفى وقتل المواطنين العزل، بحجة استهداف قوات متخفية داخل بيوت المواطنين جريمة القصد منها إرهاب الأهالي والانتقام من المجتمعات التي صُنفت حواضن للدعم السريع، تماماً كما كانت كنت تفعل النخب المركزية في حرب الجنوب وإبّان حرب دارفور التي تسببت في الإبادة والنزوح للملايين من زرقة دارفور. عجبت وانا استمع للبرهان وهو يخاطب بعض الجنود المستنفرين من الزرقة ويقول لهم دون استحياء: هؤلاء هم من قتلوكم، يقصد عرب دارفور! من الذي وفر الذخائر، المعلومات الاستخباراتية وتبرع بدك القرى بالطائرات والمدرعات قبل أن تستبيحها الخيالة التي أطلق عليها من بعد مصطلح الجنجويد؟ من الذي كان يتلذذ بوطء القاصرات ويهدد أهاليهن بالقتل حال التجرؤ بالتكلم والإفصاح عن هذه الجريمة النكراء؟ لم يأت بعد الوقت الذي يستدعى فيه الشهود لكنهم سيدعون للامتثال يوماً أمام الكبير المتعال.
إن “العقل المركزي” لا يستعظم الفاحشة ولا يحسبها ظلماً إلّا إذا ارتكبت في ذويه، ولا يستنكر المنكر ولا يحسبه إثماً إلّا إذا طاول ساحته. وها هم فجأة يتباكون على دارفور وما حدث فيها من خراب بل ويتظاهرون بالتعاطف مع النازحات في غرب البلاد وقد نسوا أن هؤلاء النسوة مكثن وأطفالهن ما يزيد عن العقدين من الزمان في هذا العراء وتلكم المسغبة. ما سبب هذا الإستفاقة الروحية المفاجئة؟ إن “العقل المركزي” عقل ألِف الاستهبال والشيطنة والمكيدة وقد أسعفته هذه الحيل قرنين أتقن فيهن سبل الانتقال من دثار إلى أخر، لكنه غفل إذ لم يدرك أن الشعوب قد فاقت من الغيبوبة وانعتقت من الخرافة. بمثل هذه البلادة وتلكم الحماقة أوردت النخب المركزية قومها المهالك وأذاقت رعاياه شر العذاب وقد كان بإمكانها التوصل إلى “تسوية وطنية شاملة” كالتي حدثت في ماليزيا وجنوب إفريقيا ودول أخرى استنقذت نفسها من الضياع، بل حافظت على رأس المال المعرفي والتجاري والإقتصادي، وضاعفت عبر سنين قلائل من مقدرتها على زيادة الإنتاج وتأهيل رأس المال البشري، مثلما ما حدث في فيتنام والصومال. بيد أنهم، أي النخب المركزية، اختارت طريق بشار الأسد الذي فضّل استنقاذ نظامه بإشعال الحرب الأهلية على استنقاذ بلده وحفظ كرامة شعبه. أيهما أولى بالملامة: بشار الأسد أم داعش؟
أفيقوا أيها الناس، لا تعيشوا في الماضي وغيبوبته المكلفة، حتى لا تفقدوا أغنامكم وترجعوا إلى مراتع حُمُركم. لقد انتهت دولة المركز إلى غير رجعة وتداعت حيل الأفندية حتى وجدت لبأسها منتهى ولم يعد بمقدور أيٍّ منّا التذاكي على الناس واستغفالهم بإسم القومية أو المؤسسية. ما حدث في الخرطوم لم يكن تمرداً إنما إنهيار لمنظومة سياسية وعسكرية وإدارية بدأت في التآكل منذ آمد بعيد. يجب أن لا نخلط هنا بين المواقف العاطفية والوجدانية وتلك الثقافية الفكرية. بمعنى أنه ليس من وظيفتي كمثقف مواساة الناس في محنتهم والبكي على أكتافهم فحالي من حالهم، لكن دوري يقتضي شرح المعضلة التاريخية التي أوصلتنا إلى هذا الدرك وتبيان كيفية الخروج من المأزق.
بإمكاننا، إذا ما أقررنا دستوراً للبلاد بعد انعقاد مؤتمر قومي أن نمضي قدماً نحو اعداد التفاصيل للفدرالية الديمقراطية وتبيان معالم التنمية الريفية الشاملة. حكى لي صديقي دكتور أحمد حسب الله الحاج أنه كان في مكتب المرحوم أحمد الأمين تِرك بغرب القاش كسلا عندما جاءه أحد أهلنا البجا وتكلم معه برهة وذهب في طريقه. سأل تِرك أحمد الحاج: هل تدري ماذا قال الرجل؟ قال له: لا. قال تِرك مبيناً رطانة الرجل ومستنكراً واقع أهله المريع: لقد طلب مني الرجل (أدروب) التوسط كي يُسمح له بالشحدة في الطرمبة المجاورة! تصور هذا حال شعب يمشي على أرض باطنها كنوز وظاهرها رموز (رموز حضارية وإنسانية وموقع لا يضاهى في إفريقيا من حيث القيمة الجيو – استراتيجية).
هنالك عصابة عنصرية وأقلية عرقية تعرقل تنمية شرق السودان والسودان عامة من أجل الحفاظ على مصالحها الذاتية والاستمرار في بسط نفوذها السياسي. موجودة هاتيك العناصر في كل الأقاليم وفي كل الأحزاب السودانية وهم كالعَثة إذا ما دخلت بيتاً بدأت في أكله من القواعد (أسميتهم مراراً “صهاينة إفريقيا”)، وقد كان لهم القدح المعلى في مساعدة الإنقاذ على بسط نفوذها في السودان من خلال المكر والخبث وزرع المكائد بين أبناء الوطن الواحد حتى ظنوا أنهم سيورثونها. هؤلاء هم من يؤجّجون نيران الحرب في كل أنحاء البلاد ومن عجب أنهم يتهمون الأخرين بأنهم أجانب ومرتزقة وعرب شتات ، ….. إلى آخره من التهم غير ذات الجدوى التي تُلحق بكيانات أصيلة أصالة الدولة السودانية. هذه المعارك الدائرة في تخوم السودان ووسطه لن تحسم بالمنابذة أو المناجزة إنما تحسم بالحوار والإقرار بالإشكالات البنيوية والمؤسسية التي صاحبت تكوين الدولة السودانية. وما عدا فمحض إفتراء سيعجل باستفحال الحرب الأهلية التي ستلتهم “صهاينة إفريقيا” قبل الآخرين!
يمكننا إذا ما أخلصنا النصح أن نختط لأنفسنا طريقاً لا نخاف فيه دركاً ولا نخشى، أما إذا ما أنكرنا واقعنا وتماهينا مع حيل المفلسين فسوف نعرض أمتنا للهلاك ووطننا للتشرذم والضياع. تسعى ذات المجموعة التي ذكرناها آنفاً إلى شدَّ الأرض من أطرافها وذلك بتأجيج نار العداوة وخلق فتنة في جنوب كردفان بين الحوازمة والنوبة، في أبييي بين المسيرية والدينكا، في دارفور بين الزرقة والعرب ، …… إلى أخره من الفتن التي ألفوا زرعها في كل نواحي السودان. يجب أن يقوم المثقف العضوي بدوره في تأمين مجتمعه من الفتن وذلك ببث الوعي وكشف ألاعيب هذه المجموعات التي استمرأت حكم السودان مُعوّلة على الفِرقة وقد كان حريُّ بها أن تعمل على خلق المشتركات الثقافية وتقليل المسافات الحسية وذلك من خلال التشييد لبنية تحتية وإنشاء مشاريع تنموية. على النقيض من ذلك فقد تعمّدت العصابة تدمير مشروع الجزيرة نكاية في شعبها الذي صادم تطلعات، أقصد انحرافات، الحركة الإسلامية. وها هو شعب الجزيرة اليوم يعاني الآمرين: مكر الإنقاذ وصلف وتفلتات الدعامة الذين لا يجد المرء مطلقاً مبرراً لتصرفاتهم الهوجاء وقد حازوا الساحة جمعاء.
وأنا أقوم بذات المهمة التي تنشد الاستنارة وجدت نفسي في نيران المدفعية الجهوية الآثمة المتدثرة بالموضوعية مع بعض الحركات البهلوانية لا لشي إلا لأنني حذرت القيادة العسكرية من التمادي في بث السموم العنصرية وقلت بأن مثل هذه التصرفات والتي صدّقتها الأفعال بعد الأقوال، على الأقل في حالة استهداف مدينة الضعين، ستكون مدعاة لحرب أهلية طالما حذرنا منها. إن هؤلاء الكتاب الأفاضل الذين تفضلوا بنقد مقالتي ولقاءاتي على بؤسهم الفكري والذي يعزى لضعف تكوينهم العلمي لم يصطحبوا مواقفي في العشرة أشهر الماضية والتي بيّنت فيها موقفي من الانتهاكات الفظيعة التي تعرض لها المواطن في الخرطوم والجزيرة ودارفور. أصبح من الضروري تمحيص المصطلحات وتفكيك السرديات التي تصبغ أحد الناس بالعنصرية والقبلية وأخر بالجنجويدية. العنصريون هم من يحتكرون مفهومة الكرامة لأنفسهم ولا يرون العزة إلا من مرآتهم وزاويتهم المعتمة التي تري القليل وتخفي الكثير. إن هؤلاء المردة يرمزون إلى كل القبائل بأسمائها، أمّا اذا نودي أحدهم بجنسه فتراه مستنكفاً ذلك أنه يرى ذلك النعت متخلفاً يجرده من خانة “السيادة القومية”. هو قومي أمّا الآخر فقبائلي.
إذا كان من يتعاطف مع ربعه ويسعى لرفع المظلمة عنهم إن هم ظُلموا ويمنعهم من الظلم إن هم ظَلموا فأنا ذاك الرجل، ولن تستخفني حيل المرائين والمغرضين. أرى فلول الإعلاميين يشيحون الطرف عن الجنجويد الكبار من أمثال البشير وبن عوف وصلاح غوش ويمعنون النظر في أولئك الصغار وذلك لحاجة في نفس يعقوب. علماً بأن الجنجويدي الكبير أعظم جرماً من ذاك الصغير، إذ لا يمكن أن يقارن جرم قرنين بجرم عقدين.
ختاماً، حتى لا نكون ضحايا للاستقطاب يجب أن نرعوي قليلاً قبل الإنحياز لأحد الفريقين، الدعم السريع أو الجيش، لأن كلاهما يسعى لتوجيه العاطفة وتأطير الوعي الجمعي لخدمة مصالحه الخاصة والنجاة من المقاضاة والمساءلة على الجرائم المرتكبة عبر العقود الماضية على أسوأ الفروض والبقاء على كرسي الحكم في أحسن الأحوال. لكلٍ منهما منصاته الإعلامية وجيوشه القبلية المستعدة لمؤازرته بدافع العاطفة أو من منطلق المصلحة. وإذ يعتزل الكبار مثل هذه المعتركات تهيباً أو خشية فإن الصغار يتصدون لها مستخدمين ما توفر لهم من حصيلة معرفية ضعيفة أو دراية لغوية بائسة. هنالك ألفاظ ومصطلحات معدة لمثل الحملات الإعلامية، الذي يقصد منها الاغتيال المعنوي للشخصية أو مجرد التصدي الغوغائي الذي يراد منه إخافة الآخرين من مجرد التفكير في هدم المقدس. لقد مضى العهد الذي كانت تتحكم فيه بؤرة ثقافية معينة أو دائرة اجتماعية محددة في تشكيل المفاهيم وفرضها على الأخرين كمفردات أو مصاغات فكرية يجب التسليم بها. بل حان الوقت الذي يتخذ فيه كل شخص موقعه حسب تأهيله ومقدراته وملكاته، إذ لم تعد بطاقة التميز الإثني والجهوي تعطي أي فرد أولوية في تناول تناول “المسألة القومية”!