-1-
لهذه البلاد قضايا قديمة جديدة مترابطة ومتوازية من الإقتصاد والسياسة والثقافة وكافة مكونات المشروع الوطني الذي نريد، ولكن قضية المواطنة في صدر القضايا الحاضرة المغيبة والمسكوت عنها. وكما قال دكتور فرانسيس دينق: “إن المسكوت عنه هو الذي يفرقنا.” ودون حل قضية المواطنة بلا تمييز لن يستقر السودان، ولقد غاب جنوب السودان حينما غابت المواطنة، وحق الآخرين في أن يكونوا آخرين والقبول بالتنوع، والوحدة في التنوع هي أساس بناء الدولة الحديثة.
الإنتقاص من تاريخ ومواطنة السودانيين هو الذي ينتقص من جغرافية السودان. العنصرية قضية إنسانية شاملة ومعقدة ولا زالت تحتل مكانا لا تستحقه في أفئدة البشر وممارستهم اليومية في أرجاء الكرة الارضية، وكان الإنسان ظلوما جهولا. العنصرية لا تزال تُمارس في البلدان المتطورة والمتخلفة على السواء، ولا زال جورج فلويد لا يتسطيع التنفس! بل إن بعض الذين تُمارس ضدهم العنصرية يُمارسونها ضد آخرين من ملتهم وقبائلهم وشعوبهم، وبعض الذين عانوا منها ساهموا فيها احيانا.
العنصرية ذات جوانب بنيوية ومؤسسية تحتضنها دول ومؤسسات ومشاريع وطنية قائمة على إنكار حق المواطنة دون أن تعلن عن ذلك، ولا تزال العنصرية تسير على قدمين في بلادنا السودان، ومسكوت عنها. وحسن فعلت مكرفونات محاكمة قادة نظام (الإنقاذ) التي نطقت بالحق وأخرجت أثقاله من بين حديث شوكت وضحكة أبوبكر.
الفرق بين المجتمعات الديمقراطية وتلك التي اعتمدت النظام الشمولي إن الأنظمة الديمقراطية قد طورت حساسية مجتمعية وثقافية وقانونية وإعلامية وتحاسب على العنصرية بإعتبارها جريمة بأركانها المعنوية والمادية، ومن يمارسها لا ينجو بفعلته، ووكالة سونا التي نقلت البث مباشرة لا تستطيع أن تورد خبرا عما حدث أو أن تدين الفاعل. ومؤسسات الدولة وقادتها مطالبون بإتخاذ خطوات تُحاسب على هذه الجريمة أو على الأقل فضحها أمام أعين الرآي العام، أو اضعف الإيمان إستنكارها.
إن بلادنا لن تسير في الإتجاه الصحيح إن لم تطور حساسية ضد العنصرية بكافة أشكالها، والذي تسرب من مكرفون المحكمة على لسان المحامي شوكت الذي سب الدين في نهار رمضان ووصف إنسانا ومواطنا محترما وقياديا في أجهزة الدولة، ويقدم للمفارقة برنامجا يسمي (حوار البناء الوطني) (أي بناء وأي وطن!)، ولنا أن نتخيل إذا حدث ما حدث للقمان في أميركا وعلى الهواء مباشرة، وفي سوح القضاء، ومن محامين فى أمريكا من البيض يتحدثون عن رجل أسود ويصفونه بأوصاف لا يتسطيع المرء أن يكررها في هذه المقالة. لنا أن نتخيل ماذا يكون رد القضاء والمحامين في الولايات المتحدة الأميركية، بل كيف سيكون رد البيت الأبيض.
في رابعة نهار ثورة ديسمبر المجيدة التي لم تسلم من الحديث ايضا فماذا وكيف يكون الرد من الديسمبريات والديسمبريين ومن المجتمع ومن الدولة، ولقد تأسفت وشعرت بالحزن لضحكة أبوبكر عبد الرازق ومشاركته لأنني أعرفه، ورغم الإختلاف ظل بيننا الإحترام، وأدعوه- وهو المعروف في دوائر الرآي العام- أن يعتذر بشجاعة ويشجب ردة فعله ومشاركته وضحكته غير المناسبة على حديث عاطل عن كل المواهب، وعليه وزميله شوكت الخروج من هيئة الدفاع، وشوكت يتسحق أن يُفصل من نقابة المحامين ويُمنع من ممارسة مهنة المحاماة والقانون لاسيما أن كل ذلك قد تم في داخل المحكمة وفي أروقة القانون، فأي محكمة وأي قانون يُمكن أن يقف امامه السيد شوكت مرة آخرى؟! والذي هو نفسه يمثل الآخر عند آخرين وياتي من مجموعات سكانية ينظر إليها البعض بدونية لاختلاف لسانها، ومع ذلك فهو ينظر بدونية إلى اختلاف اللون. إن ما حدث سدد إساءات إلى الدين الإسلامي وإلى الأديان السماوية وإلى رب السماوات والأرض، وفي شهر رمضان المبارك. وحمل إساءات عنصرية ضد البشرية والإنسانية والسودان، ثم تحدث عن لجان المقاومة بلغة (المحرش ما بكاتل) وهي إساءة بليغة إلى لجان المقاومة والثورة، ولم ينسي المحامي أن يسىء إلى النائب العام السابق وإلى هيئة الإتهام التي تضم حصان طروادة على حد قوله.
إن ما حدث يحتاج إلى رد مجتمعي جماعي ومثقف وسياسي ضد العنصرية والعقاب الرادع على ممارستها قولا وفعلا، وعلى قوى الثورة أن تضع قضية العنصرية والمواطنة فى أوليات أجندها فلا مشروع جديد دون حل قضية المواطنة، وهي إحدى جذور وأسباب الحروب الرئيسية، وليتحدث الشارع ضد العنصرية وليعزز قيمة المواطنة.
-2-
*دمعة ووردة على قبر داؤود يحي بولاد*:
في عام 1990، إلتقى داؤود يحي بولاد بالدكتور جون قرنق ديمابيور في مدينة مريدي بغرب الإستوائية، في بداية اللقاء بادره دكتور جون قرنق بالسؤال حول ماهية الأسباب التي دعت شخصا قياديا مثله لترك الحركة الإسلامية والإنضمام للحركة الشعبية؟ ولما كانت قرية “الملم” التي ينحدر منها الاستاذ لقمان أحمد ليست ببعيدة عن مسقط رأس داؤود يحي بولاد المهندس والشهيد والقيادي السابق في الحركتين الإسلامية والشعبية ولعله الوحيد، فإن ما دار بين داؤود وقرنق ذو صلة وثيقة بما حدث يوم أمس في المحكمة، وكلا المتهمين والمحامين يلمون بدقة بجرح داؤود يحي بولاد المهندس والشهيد المرتبط بالمواطنة والأرض، وفى جامعة الخرطوم حينما كانوا طلابا هتف بعضهم بالأمس (عائد عائد يا بولاد) حينها كان بولاد أحد قادة إتحاد طلاب جامعة الخرطوم ومعتقلا فى سجون نظام مايو!.
أجاب داؤود يحي بولاد ردا على سؤال جون قرنق دون تردد: “إنني قد أكتشفت بان الدم أكثر كثافة من الدين في الحركة الإسلامية.” أي إن الروابط الإثنية في داخل الجماعة أقوى من رابطة الدين، وهذه قضية تهم كافة الأحزاب والجماعات، وتهمنا معاً، وعلينا أن نواجهها معاً. والمجتمع السوداني بحاجة لمواجهة قضية العنصرية بشفافية.
اما الحركة الإسلامية إذا أرادت اصدار نسخة جديدة مواكبة للعصر فعليها أن تدرس قضية العنصرية في داخلها وترد الإعتبار لإنسانيتها، ولقد سبق للراحل الدكتور الترابي أن أشار إلى ذلك في موضوع دارفور، ولكن الحركة الإسلامية في مجملها- وليس كلها- يجلس على سدة قيادتها من هم في عجلة من أمرهم لا يهمهم مراجعة أمر (الإنقاذ) من العنصرية وحروبها التي لعبت فيها العنصرية إحدى محركاتها، ولكن الجماعة ظلت في عجلة من أمرها للقفز على دست الحكم قبل مراجعة التجربة. وهنا فإن الجماعة لم تتعلم شيئا ولم تنسى شيئا ولا يسمح قادتها لها بالحديث بلسان مبين وفصيح في قضايا مثل الديمقراطية والعنصرية والمواطنة بل إن عمار السجاد قد ذهب ابعد من ذلك فيما نُقل عنه عبر الإنترنت وزادنا في الشعر بيتا بإن سب الدين عند البعض نوعا من تنفيس الغضب، وذكر أحد الظرفاء إن الجماعة قد غضبوا من بث لقمان للمظاهرات على الهواء ولكن البزعي ووكالة سونا قد قاما ببث سب الدين والعنصرية على الهواء، وسب لجان المقاومة في بث مباشر. وحاول البعض نفى ونكران ما جرى بدلا من إتخاذ موقف مستقيم منه.
-3-
*1924 ثورة السودانوية والنهوض ضد العنصرية:*
دون محاولة استخدام هذه القضية الكبيرة في تصفية حسابات صغيرة وترك القضايا الكبرى وعلى رأسها مكافحة العنصرية وبناء مجتمع لا عنصري قائم على المواطنة بلا تمييز، فإنني أتوجه بالدعوة مرة آخرى للشباب وللجادين من بنات وأبناء شعبنا ومجتمعنا لا نفرق بين أحد منهم، وعلى وجه الخصوص من الديسمبريات والديمسبريين، لنحتفي بمرور قرن من الزمان على ثورة 1924، وهي ثورة سودانوية كسرت حاجز الصوت والصورة ضد العنصرية وأختارت علي عبد اللطيف بكل ما يمثله زعيما للأمة السودانية، ولا تزال صورة قادتها البديعة والتنوع السوداني الذي مثله قادتها وشهداءها الذين تتوزع دماءهم شمالا وجنوبا هي أكبر صيحة في وادي النهوض ضد العنصرية (إنما أنا سوداني ولا يهمني إلي أي قبيلة أنتمي)، فالسودانوية وحدها هي التي توحدنا، ولنحتفي بمرور قرن على ثورة 1924، ونحو مجتمع لا عنصري يمجد السودانوية والإنسانية.
*الخرطوم، 13 أبريل 2022*