ركزت الإنقاذ على ظاهرة السكن العشوائي فكانت النتيجة كتل إثنية تكتظ بالبطالة والإجرام..!
الخرطوم مدينة غامضة لا مستقبل لها، ومكان موعود بإنفجار خطير في المستقبل القريب، وهذه ليست تشاؤماً وإنما هو تتبع وقراءات منطقية للتطور التأريخي للأحداث والإنفلاتات وأسبابها، وكذلك الدور السلبي للحكومات المتعاقبة من جهة التعامل مع العاصمة بفهم إستراتيجي يجعلها وجها مشرقاً للبلاد، ومكان ينعم في الناس بالأمن والطمأنينة، إذا كيف يشعر الإنسان فيها بالأمن وهو يرى حوادث النهب تتنامى أمامه، والشرطة والسلطات الأمنية التي كان مجرد ذكر إسمها يجعل الناس يصطفون إحتراماً للقانون تظهر في أضعف مظاهرها، فاقدة للهيبة ومسلوبة للسلطات؟
* إليكم في حلقات بعض القراءات والمشاهدات والمتابعات التي توضح جوانباً مما يحدث وتسلط الضوء على مستقبل وأفق الحياة هنا.. في العاصمة..!
– أبوعاقله أماسا
* تذكرون أنني كتبت مراراً على صفحتي في الفيسبوك عن أخطر (وأغبى) قرار إتخذته حكومة السودان، أو حكومة الإنقاذ بالأحرى، في معالجة السكن العشوائي، تلك الإجراءات التي بدأت مطلع التسعينات، وأعود بكم إلى الوراء قليلاً لتأريخ بداية ترهل العاصمة ونمو السكن العشوائي في أطرافها، وتحديداً مع مجاعة ١٩٨٥، وموجة الجفاف والتصحر التي ضربت القارة الأفريقية والسودان بطبيعة الحال وأدت إلى نزوح الملايين من أقاليم السودان من الذين فقدوا مزارعهم وثرواتهم لذات السبب، ولأنهم نزحوا كلهم نحو الخرطوم بحثاً عن أطواق النجاة لم تكن العاصمة ذاتها مهيأة لذلك، من النواحي الخدمية ولا من النواحي الأمنية والترتيبات الأخرى، فعندما تترقب زيارة مجموعة من الضيوف إلى منزلك تتهيأ لإستقبالهم بشكل يليق، بإعداد المكان والضيافة وكل وسائل الراحة والإنسجام، ولكن، إذا أصبحت فجأة ووجدت البيت يكتظ بالضيوف بدون سابق إنذار فذلك يعني حدوث الإنفلات في كل شيء، وعلى الأقل سيحدث الخلل في النظام المنزلي، وتنظر للمخزون ولا تجد ما يكفي… وهكذا..!
* الخرطوم إستقبلت في ظرف عشرين سنة، من ١٩٨٥- ٢٠٠٥ أضعاف قدرتها الإستيعابية من السكان بدون أن يواكب ذلك أي تخطيط إستراتيجي لدرء آثار أي إنفجار سكاني يحدث، وكثير من الذين نزحوا إليها أقاموا في الهوامش التي تعيش ظروفاً لا تقل قسوة من تلك التي هربوا منها في مناطقهم، تدني الخدمات وإنعدام الأمن وانتشار البطالة، مع إرتفاع نسبة الخصوبة، وبالتالي ولد ملايين الأطفال في هذه الظروف القاسية، ومعظمهم لم يحظ بفرص جيدة للدراسة والتعلم أو العيش الكريم، ومع تقدم هؤلاء الأطفال المحرومين في العمر ظهر ما يسمى بعصابات (النيقرز).
* الخطأ القاتل لحكومة الإنقاذ أنها قننت إقامة هؤلاء النازحين في العاصمة ولكنها لم تنظر إلى أبعد من هدف القضاء على ظاهرة السكن العشوائي، ووضعت ذلك مصدراً للكسب الإعلامي وحشد الإنجازات، وهي لا تدري أنها تضع بذرة لإنفجار هائل في المستقبل.
* بعض الأحياء العشوائية التي ضمت أثنيات بعينها، نزحت مع بعضها وأقامت ككتلة واحدة في مناطق لا تتمتع بأي مقومات للعيش الكريم للإنسان من حيث هو إنسان، وكانت تلك الكتل الإثنية بحاجة للإدماج مع غيرها لضمان الإنصهار وقطع الطريق على تنامي الثقافة القبلية وبعض النعرات، وعلى سبيل المثال قاموا بترحيل حي العشش الذي كان يحاور السوق الشعبي الخرطوم في مساحة واحدة أطلقوا على الحي الجديد إسم (الإنقاذ)، ونفس الشيء فعلوه مع الحي العشوائي الذي نشأ في منتصف الثمانيات بجوار (زقلونا) بالثورة وأطلق عليه (الكرتون) نسبة لأن المباني كانت عبارة عن عشش صغيرة من الكرتون، وغرف من الطين لا يتجاوز أكبرها ثلاثة أمتار في مترين، وعندما الترحيل نتج عن ذلك حارتين هما الحارة (٥٤) و (٦١) في غرب الحارات، ولمن لا يعلم كانت هذه الحارات كتل إثنية محددة فقدت فرصة التعلم بالمثاقفة أو التعليم الحكومي المحترم، ولم تهتم الحكومة بأكثر من هدف القضاء على ظاهرة السكن العشوائي، فكانت النتيجة أنها اليوم من أخطر الحارات أمنياً، وفيها معدل غير مسبوق للجريمة بأشكالها، إبتداء من السرقة والنهب وحتى القتل، وإذا سنحت لك الفرصة الدخول إليها كضيف أو عابر طريق تستنشق رائحة العطالى والإجرام من الشوارع، ومجموعات المراهقين والشباب تجلس على الطرقات من الصباح وحتى المساء، وبعد المغيب لا يجرؤ أحد على دخول تلك الحارات وإلا فإن ممتلكاته وروحه ستكون أرخص شيء أمام هؤلاء، ومنها تمتد الظوهر الإجرامية إلى بقية الحارات لتأخذ معها كل الحيرى من الشباب والمراهقين ممن فقدوا الثقة في المجتمع ولم يحظوا بفرصة للتعليم، أو المثقافة مع مكونات أخرى لإكتشاف ما يسمى بالأخلاق.
* ذات المعالجة شملت أحياء مثل حي (الشرفية) الذي كان إسمه (الحفر)، وهي جزء من أحياء القماير والدباغة، وعندما عالجها الوزير الراحل شرف الدين بانقا نتجت عنها حارات أخرى في شمال الثورة هي اليوم نسخة من الحارتين (٥٤) و (٦١)…. وأعني الحارات (٤٠ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٧ ، ٤٨).. أو الحارات التي تسجل أعلى معدل للجريمة.
* ذات النموذج يطوق أم درمان غرباً، في حارات دار السلام حيث لا أثر (للسلام) على أرض الواقع، والشرطة تدون كل يوم حوادث سطو ونهب وقتل وحتى إقتحام للمنازل، وحيث معامل الخمور التي تقف وراء كل جريمة، وكوكتيل من التفلتات التي يندي لها الجبين ربما لم تحدث في المناطق التي نزح منها هؤلاء، وهي بيئات تصنع الرعب، وتثير غباراً كثيفاً في الأفق، ومستقبل العاصمة الخرطوم.. كيف يكون في ظل هذه المقدمات..!؟
* الأغرب من الخيال أن الشرطة نفسها ممنوعة من التواجد في تلك الحارات، وقد أجبرتها العصابات على إلغاء نقاط بسط الأمن الشامل فيها، مثلما حدث في الحارة (٦١) حيث كان أفراد بسط الأمن الشامل يتعرضون للرشق بالحجارة والهجوم ليلاً إلى أن تم تجفيف الموقع… لأن الجريمة أكبر من القوة المخصصة، بل وأن الدوريات العادية لا تجرؤ لدخول تلك الحارات..!
نعود ونواصل….!!