اعمدة

عبدالباقي جبارة .. يكتب .. ” فزع الحروف ” .. دارفور الإنفصال إكراها بلورة الصراع !

خلال الأيام الماضية تعرض الشعب السوداني لصدمة قاسية جدا ، وهي ما حصل من مجازر بوحشية لم يسبق لها مثيل في مدينة الفاشر ، رغم أن هذه الحرب من تجلياتها منذ اندلاعها في منتصف أبريل

 

 

 

خلال الأيام الماضية تعرض الشعب السوداني لصدمة قاسية جدا ، وهي ما حصل من مجازر بوحشية لم يسبق لها مثيل في مدينة الفاشر ، رغم أن هذه الحرب من تجلياتها منذ اندلاعها في منتصف أبريل ٢٠٢٣م ظلت تقدم صنوف الدهشة والإبهار من أنواع المآسي التي لم تشهدها البشرية في تاريخها القديم والحديث ولا حتى محرقة النازية وحروب البرابرة ، لكن الصدمة التي عمقت جراحات وجدان كل صاحب فطرة سليمة ، ردة فعل المجتمع الدولي وخاصة بأن ما حصل في الفاشر يستدعى تنكيس الأعلام وإعلان الحداد في جميع أنحاء العالم ولا سيما المنظمات العدلية ومجلس الأمن حيث يستوجب أن لا ينفض سامرها حتى تواجه هذه الوحشية بما تستحق .. لكن للأسف كل الذي حصل مجرد بيانات خجولة وتصريحات توحي بأن المهتمين بالشأن السوداني دوليا كأنهم كانوا على علم بما حدث ، حتى اجتماع مجلس الامن المقرر انعقاده اليوم قرر أن يضع هذه الكارثة على هامش أجندته وليس في الأولويات ، السؤال الجوهري لماذا ؟! وللإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع لطبيعة الصراع في السودان منذ الإستقلال وأهدافه الحقيقية ..
الشاهد في الأمر منذ اندلاع اول حرب أهلية في السودان المعروفة بتمرد توريت ١٩٥٥م ظلت الحروب تبدأ بمطالب مشروعة أبرزها رفض التهميش وعدم التوازن في التنمية ورغم أن هذه الأسباب معالجتها ساهلة جدا لكن ساهم في تعقيد حلها الحروب نفسها التي يتبناها البعض بحجة انتزاع الحقوق بالبندقية ، ولكن بقدرة قادر تبلور هذا الصراع إلى أجندة داخلية ذات طابع اكبر من المطلبي يتمحور كصراع حول السلطة والنفوذ والموارد ، وهذه أجندة داخلية في المقابل تدعمها أجندة دولية اطماعها أكبر بكثير من الأجندة الداخلية لأن دول المنطقة والعالم تعلم بأن استقرار السودان يجعل منه دولة عظمى بلا شك لمقوماته التي نادرا ما تتوفر في دولة من دول العالم ، ولذلك دول الأجندة الخفية ظلت تغذي هذا الصراع حتى حقق أحد أجندته بانفصال الجنوب والذي يبدو أنه انفصالا سلسا ، لكنه غير ذلك تماما لأنه تحقق بعد حرب أهلية استمرت لأكثر من عشرين عاما على مرحلتين اثنتين. الأولى التي تبنتها حركتي ( الأنانية ون والأنانية تو ) واستمرت من ١٩٥٥ وحتى ١٩٧٢م وتوقفت ب( اتفاقية أديس أبابا ) .ثم اندلعت الحرب مرة أخرى عبر الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق ، حتى توقفت باتفاقية نيفاشا ٢٠٠٥م ثم كان هنالك استفتاء يعتبر شكليا أفضى إلى انفصال الجنوب في العام ٢٠١١م في عهد حكومة الإنقاذ المشؤومة ، وكانت فاتورة هذا الانفصال قتل حوالي مليوني مواطن غير تأخر هذا البلد الافريقي عن ركب الدول المستقرة في شتى مناحي الحياة ..
الآن نفس الجهات التي تتبنى الأجندة التي فصلت الجنوب تحاول إسقاط ذلك على دارفور لكنها لا تتحمل انتظار عشرين عاما أخرى حتى تصل لذلك كما حدث في الجنوب ، في المقابل تعقيدات المشهد في دارفور أكثر بكثير من الجنوب .. لسبب بسيط جدا وهو بأن التركيبة السكانية في إقليم دارفور لا تختلف كثيرا عن سكان وسط وشرق وشمال السودان ، بجانب وحدة الدين والمعتقدات فلذلك أصحاب الأجندة الانفصالية لم يجدوا مدخلا لتأجيج الصراعات إلا عبر الدافع القبلي والعرقي ، ولكن بقدرة قادر بعد تحالف المركز مع المكونات العربية في دارفور لقتال المكونات الأفريقية على مدى ثلاثة عقود تحول هذا التحالف إلى النقيض حيث تحالف المركز مع المكونات الأفريقية ضد العربية . والسؤال الذي يفرض نفسه هل هذا التحالف الجديد استراتيجي ؟ بالطبع لا ، بل مرحلي بامتياز ؟
لماذا ؟!
لأن الذين يتبنون الصراع في دارفور منذ العام ٢٠٠٣م من أجل فصلها عجزوا أن يحققوا ذلك عبر الحرب ضد ( الزرقة ) رغم أن حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور تعتبر حركة انفصالية ولها تواصل مع دولة اسرائيل على المكشوف ورفضت كل الحلول الوطنية حتى بعد نجاح ثورة ١٩ ديسمبر والإطاحة بنظام عمر البشير والسبب الأساسي في فشل انفصال دارفور في عهد الإنقاذ هو بأن المكونات العربية في دارفور أكثر من الأفريقية والسبب الثاني بأن حكومة الإنقاذ تبنت شعارات دينية وأهل دارفور أكثر تدينا من أهل الإنقاذ ، ولذلك تحولت الخطة الآن أو بالأحر منذ بدء الحرب الأخيرة للتحالف مع الزرقة ضد العرب ليس حبا فيهم ولا كرها للعرب لكن خطة الأجندة الخارجية تهدف لضرب المكون الاقوى وإضعافه وبالتالي التخلص من الزرقة سهل للغاية ، والشاهد في الأمر الآن بعد سقوط الفاشر على يد الدعم السريع أصبحت الحركات المسلحة المشاركة في حرب ١٥ ابريل مثل ( اليتيم في بيت البكاء ) كما يقول المثل السوداني ، لأنها لا مبرر لوجودها في ولايات الشمال والوسط والشرق بعد أن آلت كل دارفور للدعم السريع ، إلا من باب المجاملة والمكابرة ولاسيما اتفاقية جوبا للسلام كل بنودها مرتبطة بدارفور ألهم الا تحدث معجزة وتنجح خطة الحرب في مرحلتها الجديدة ويجتاح الجيش السوداني والمتحالفين معه كل المناطق المسيطر عليها الدعم السريع في كردفان الكبرى ومن ثم دارفور ، وهنا يمكن تنتفي فرضية المشاركة في المؤامرة المفضية لانفصال دارفور ، واعتقد هذا الاحتمال بعيد لأن دوافع القتال قد تكون للقوة المشتركة فقط ولكن ليس بذات الفعالية بسبب ( دس المحافير) عنها أي لن تتوفر لها إمكانيات حقيقية لمواصلة القتال .. بجانب ذلك هنالك كثير من الشواهد تؤكد انفصال دارفور إكراها وبوضع اليد عكس جنوب السودان الذي أقيم له استفتاء وإن كان شكليا ، ولكن دارفور حتى إذا أقيم استفتاء شكلي سيفشل ، ولذلك من خطط لهذه الحرب وجد هذه الطريقة المثلى لانفصال دارفور ومهد لها بخطاب كراهية مدعوم من المركز مثل الناشطين الاعلامين الذين يدعون بأنهم يدعمون الجيش السوداني يتحدثون بصراحة بأن ( هؤلاء لا يشبهونا وعرب شتات وفارون من دول الجوار ) ويدعون صراحة التخلص منهم بانفصال دارفور رغم أن نفس المتحدث تجده يربطه دم ولحم مع هؤلاء ، والغريبة بلع الطعم نفس النشطاء الإعلاميين للحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش واصبحوا يتبنون خطاب كراهية ضد أهل الشمال والوسط والشرق رغم أنهم في خندق واحد يدعون بأنهم لديهم عدو مشترك وكأنهم لا يعلمون بأنهم ( يسنون السكين التي تذبحهم) ، وبالتأكيد السلطة الحاكمة في المركز تدعم هذا الاتجاه بإقرارها الصمت على خطاب الكراهية بجانب ممارسات السلطة التنفيذية التي حرمت كثير من أبناء دارفور من حقوقهم الأساسية مثل الأوراق الثبوتية والتعليم وقطع الخدمات من مناطق سبطرة الدعم السريع بحجة هؤلاء حواضن أو بهدف قطع الأمداد من العدو لكن بطريقة مباشرة هذه التصرفات عززت الإتجاه نحو الانفصال إكراها .. وأمام كل هذا المشهد تقف القوى المدنية الوطنية حائرة في أمرها مغلولة اليد في فعل أي شئ لضعفها بتشتتها أو متواطئة مع هذه الأهداف الدنيئة مع الأخذ في الاعتبار الذين يعملون ليل نهار لتجنب الكارثة الكبرى .. والله خير حافظ وهو وكيل الغافلين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى