الجميل الفاضل … يكتب.. سؤال المبتدأ، جواب الخبر؟! أربعينية “محمود”، هل تصبح ميقاتا لخروج “السودان” من التيه؟!
وما أدراك ما التيه؟!
شرط الخروج، المعرفة بطريقة التغيير!!
أربعون عاما مضين واليوم أنقضين، علي رحيل الأستاذ محمود محمد طه، عن دنيا الناس هذه، شهيدا وصديقا، تحقق بصورة إنتقال بديعة للغاية، تحلي فيها بثبات الإنفعال، في موقف تهتز له الجبال، متصدقا علي أصدقائه وعلي أعدائه أيضا بابتسامة شع سناها كما البرق علي كل الوجوه، ثم إرتاض نفسه علي مضمار داخلي، للمشي الي الموت مشيا، لا مكبا علي وجهه، بل سويا علي صراط مستقيم، مستوفيا كل موجبات وأشراط التعامل مع لحظته الحاضرة الأخيرة، لحظة التقائه بالموت وجها لوجه، بكامل البهاء، والجلال، والجمال.
إذ ليس في الحقيقة ثمة “محمود” آخر الي الآن علي الأقل، نستطيع أن نؤرخ بموته أو بحياته، لرمزية خروجنا من هذا التيه الماثل.
وللحقيقة فإن قصة هذا الرجل مع السودان، قصة لا بداية لها، ولا نهاية.
إنه كما قال د. منصور خالد: “رجل لكل الفصول”.
بل ربما لخاصية إنتمائه وتأثيره علي كل الفصول، فإنه كان أول من قرأ لنا أحوال الطقس والمناخ في السودان قبل حلول فصل الحكم “الإخواني” للبلاد، قارئا لخارطة طريق “الإخوان” الي السلطة، طارحا “سوفاته السبع” التي مضي “الإخوان المسلمين”، علي دربها نعلا بنعل، وحافرا بحافر، ثم لم يستطيعوا، أن يفارقوها رغم حرصهم، قيد أنملة.
فقد لبث ستمائة الف من بنو اسرائيل أربعين سنة يدورون في نطاق ضيق لا يتجاوز، ستة فراسخ، أي نحو ثلاثين ألف كيلو متر.
يجدون المسير مع كل شروق شمس، بيد أنهم متي غربت الشمس، وجدوا أنفسم يراوحون في ذات المكان، الذي منه قد بدأوا المسير.
علي أية حال، هكذا كان هو حال السودان أيضا، الذي ظل يدور كثور الرحي في ذات الدائرة الخبيثة والحلقة الجهنمية، إنقلاب مستبد، فثورة باهرة، يتبعها إنتقال هش، ثم إنتخاب لا يمنح حزبا واحدا أغلبية مريحة للحكم، ثم إنقلاب تارة أخري، وهكذا دواليك الكؤوس تدار.
فلا أرضا قطع السودان، ولا ظهرا أبقي لغد، يدور هائما بلا هدي، كالذي يتخبطه المس من الشيطان.
بل ليته كان يمضي فقط، علي منوال قاعدة يحرك عليها الجنود أقدامهم، بلا حركة الي الخلف أو الي الأمام في المكان، يسمونها “محلك سر”.
المهم يفسر أن بنو إسرائيل قد تاهوا أربعين سنة، لإخراج جيل فاسد قديم من معادلات الواقع، بغية افساح المجال أمام جيل جديد مختلف لكي يسود.
هي ذات الغاية التي هتف بعض المتطلعين هنا لأجلها، في أكتوبر (64) بحثا عن تغيير أعمق وأشمل، مرددين: “لا زعامة للقدامي”، و”لا قداسة في السياسة”.
رغم أن تيه بنو إسرائيل ربما كان هو أكثر رحمة من تيهنا هذا الكئيب.
إذ لما أشتكي بنو إسرائيل العطش أمر الله موسي أن يضرب الحجر بعصاه، فإنفجرت منه إثنتا عشرة عينا، بعدد نقبائهم، ليعرف كل أناس مشربهم، فإن شربوا وأكتفوا جف للتو ماء العين التي كانوا منها يشربون، الي حين حوجة أخري للماء، وكان طعامهم “المن” الذي يشبه العسل يتنزل عليهم كل حين من السماء، و”السلوي” طائر السمان الذي كلما طلبوه كان حاضرا مضهيا معدا وجاهزا للأكل، فقط شريطة ألا يختزنوا منه شيء.
وفي هذا التيه كانت لا تطول شعورهم ولا تشعث، ولا تبلي ثيابهم ولا تنجس، تطول الثياب مع نمو صغارهم، وتكبر معهم إذا كبروا.
إذن فالخروج من “تيه السودان” المؤلم، يقتضي هو كذلك أول ما يقتضي، التحرر من كل عقابيل وآثار وتبعات هذا التاريخ المقعد.. تاريخ الصراعات، والحروب الأهلية، والأزمات البنيوية، وكل صراعات نخب المركز العبثية، مدنية وعسكرية.
هذه الصراعات التي فجرت ثلاثة ثورات شعبية، إمتلكت نخب المركز، وطبقته المخملية، القدرة على إجهاض أهدافها، والإلتفاف حولها، لإعادة إنتاج ذات الأوضاع التي ثار الناس ضدها، لندور هكذا، معصوبي العينين بلا تدبر أو توقف، كجمال “العصارة” أو ثيران “الساقية”، في حلقة مفرغة تماما، تؤسس لدورة خبيثة شريرة، او لحلقة جهنمية كما يقال.
ليبدو وكأن كل ثورة في تاريخنا ما هي إلا بقية معلقة من ثورة سبقتها، لم ينال الناس منها شيء.
وفي هذا يقول الاستاذ محمود محمد طه عن أولى هذه الثورات، ثورة أكتوبر (٦٤): “ثورة أكتوبر لم تكتمل بعد وإنما تقع في مرحلتين.. نفذت منها المرحلة الأولى، ولا تزال المرحلة الثانية تنتظر ميقاتها، إن المرحلة الثانية من ثورة أكتوبر هي مرحلة الفكر المستحصد العاصف، الذي يتسامي بإرادة التغيير، الي المستوى الذي يملك معه الشعب المعرفة بطريقة التغيير”.
تري هل بات شعبنا بعد هذه الحرب اللعينة، وبعد أربعين سنة من رحيل مفكره الأستاذ “محمود”.. بات أقرب لامتلاك المعرفة بطريقة التغيير، هو سؤال علي أية حال؟.
لكن تأمل معي كيف كان يقول الأستاذ محمود بإلحاح وبيقين منقطع النظير:
“السودان هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب، فلا يهولن أحداً هذا القول.
لكون السودان الآن جاهلاً، خاملاً، صغيراً.
فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع، ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء”.
ثم سؤال رديف ينشأ من قول آخر له أيضا، فمتي ينقلب الرعاة؟!
فإن هنالك عالما جديدا قيد التشكل!!
إذ يلمح الأستاذ محمود محمد طه، في إشارة لطيفة، للسودان وما ينتظره من مجد وسؤدد كوني لاحق، قائلا: “عند منقلب الرعاء، تسبق الشاة العرجاء”؟!.
فهل ثمة شواهد علي أن هؤلاء “الرعاة” باتوا في وآرد الإنقلاب، الذي من شأنه أن يتيح لشاتنا علي عرجها البائن الآن فرصة لتصدر السباق، كما سبق لممالكنا القديمة “كوش ومروي”، من صدارة ومكانة في العالم لا تضاهي؟.
علي أية حال، هناك يومان فقط، ويصعد الي ذروة سنام “البيت الأبيض”، رجل صعب المراس، غريب الأطوار، متقلب المزاج، خبره العالم آنفا لأربع سنوات في تجربة الحكم، هزم خلالها هذا الرجل “ترامب” كافة التوقعات حوله في الماضي، بما يجعل بالطبع التنبوء اليوم بتصرفاته المستقبلية أمر يبدو أيضا شبه مستحيل.
في ظل وجود زعيم جبار آخر، يقود دائما بلا كوابح، يخوض هو حربا ضد أكبر الأحلاف العسكرية في العالم علي أرض أوكرانيا المطلة علي بوابات أوروبا الشرقية.
في نزوة حرب تحرق “بوتين” شوقا لها، فأحرق بها دولة تعد مخزن حبوب العالم، حرب لا يعرف الي الآن لها سببا حقيقيا مقنعا؟ ولا الي أين ستمضي؟ أو الي متي وكيف؟ وعلي أي نتيجة سوف تنتهي؟.
إننا نعيش في عالم يعيش هو حالة مد وجذر عنيف للغاية، تقوضت في خضم عواصفه وأنوائه القوية، أو في طريقها لأن تتقوض علي الأقل، غالب قلاع “الإسلام السياسي” في منطقتنا، سنية كانت أم شيعية، تقصفت أجنحتها، فتقلص نفوذها شيئا فشيئا، من طهران مركز “حلف المقاومة” المرتعش حاليا تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، تلك الضربات التي نالت من الهيبة الإيرانية ومن رموز حلفها، الي دمشق الجوهرة التي سقطت من التاج الإيراني بأياد تركية، الي لبنان التي فقدت المقاومة فيها أدوات نفوذها وتأثيرها فأرتخت قبضتها بالفعل، لغياب أقوي زعمائها علي الإطلاق حسن نصر الله، والي حماس التي أبعد قادتها بقرار أمريكي مذل من الدوحة، إنصاعت له في النهاية قطر، ثم الي صنعاء الحوثية التي لا زال الغرب يلاعبها بمكر يتربص بها الدوائر.
إن العالم برمته يغلي حاليا كالمرجل، رماله المجنونة تتحرك اليوم في أكثر من إتجاه، تزخف ليل نهار، تجر خلفها أقداما كبيرة نحو هاوية السقوط، من أعلي نقطة علي سطح العالم المترنح والي أدني تل، هي أقدام تبدو الي الآن علي الأقل متثاقلة الخطي، تأبي التزحزح عن مواقع صدارتها الكونية التقليدية.
لكن رغم بطء إيقاع هذا التغيير المرجح، أستطيع أن أقول: إن عالما جديدا لا محالة هو الآن قيد التشكل، وفق معطيات ومعادلات ومسارات، لا يعلم أيان مرساها سوي الله مدبر هذا الكون العريض، المهيمن علي مصائره أمما وشعوبا، دولا وحكومات.
لكن السؤال ما هي شروط تصدر “شاتنا العرجاء” للسباق؟!
السودان وصحيح الإسلام وجهان لعملة واحدة!!
يلخص الدكتور عبدالله الفكي البشير في كتابه: “محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان” رؤية الأستاذ محمود محمد طه تجاه السودان، من خلال محور في الكتاب، جاء تحت عنوان: (السودان: من الهامشية، إلى مركز دائرة الوجود).
يقول دكتور عبد الله: “أن تعريف السودان عند الأستاذ محمود محمد طه، يختلف عما درج الناس عليه، إذ أن تعريف السودان عند محمود محمد طه، لا يُلتمس من طبيعة علاقته بمحيطه العربي الإسلامي أو الأفريقي، ولا يُشخص من خلال إرتكازه على مُرتكز حضاري أو ثقافي خارجي، كالمرتكز العربي والإسلامي أو غيره، وإنما يتم تعريف السودان إنطلاقاً من “ذاتيته”.
فالسودان، عند محمود محمد طه، باعتبار دوره المُرتجى، هو مركز دائرة الوجود على الكوكب، فهو يقول: “أنا زعيم بأنّ الإسلام هو قِبلةُ العالم منذُ اليوم، وأن القُرآنَ هو قانُونُه، وأنَّ السّودان إذ يُقدّم ذلك القانون في صورِتِه العمليّة المُحقِّقة للتّوفيق بين حاجة الجّماعةِ إلى الأمنِ وحاجةِ الفردِ إلى الحّريّة الفرديّة المُطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب”.
وفي توضيحه للإسلام الذي هو قبلة العالم والذي يُرتجى منه تقديم تلك الصورة العادلة والمُشرقة للسودان وللعالم.
يمضي دكتور عبد الله الي القول: “فالإسلام الذي هو قبلة العالم، والمنتظر من السودان تقديم قانونه في صورته العملية، ليس هو الإسلام كما يفهمه الناس اليوم، وإنما هو الإسلام بفهم جديد.
فقد طرح محمود محمد طه الفهم الجديد للإسلام منذ عام 1951.
وبين معالمه، وفصله، وحدد غاياته، وأهداه إلى الإنسانية”.
وهذه الدعوة هي دعوة لمدنية جديدة إنسانية دستورها (القرآن) في مستوي آيات الأصول وهي (الآيات المكية)، وهو المستوى الذي يصلح لمواجهة تحديات العصر وحاجة الإنسان، حيث التوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن وحاجة الفرد للحرية الفردية المُطلقة، حيث الإسماح والسلام والخطاب الكوكبي، وهي آيات تخاطب الناس كافة (يا أيها الناس)، وهو مستوى أرفع من القرآن في مستوى (الآيات المدنيّة ) آيات الفروع، حيث الإكراه وتشريع القرن السابع الهجري، فهي قد كانت تناسب طاقة ذلك الوقت.
ويوضح عبد الله بأن هذه المدنيّة الجديدة الإنسانية عند الأستاذ محمود، تري “أن الأسرة البشرية واحدة، وأن الطبيعة البشرية حيث وجدت فهي بشرية، وأن الحرية و الرفاهية، حق مُقدس طبيعي، للأسود، والأبيض، والأحمر، والأصفر”.
كما يوضح أن الإسلام عند الأستاذ محمود محمد طه، فكر متطور ولا يجمد على صورة واحدة، لا في التشريع ولا في الأخلاق، إلا حين تعجز العقول عن الانطلاق معه.
ولهذا كان تطوير التشريع أحد مرتكزات الفهم الجديد للإسلام.
ويؤكد دكتور عبد الله، بإن الإيمان بالسودان عند الأستاذ محمود محمد طه، لا حد له، فالسودان إذ يقدم الفهم الجديد للإسلام للإنسانية، لن يعاني من الهامشية، فبالإضافة إلى كونه مركز دائرة الوجود، فإنه سيصبح من الروافد التي تضيف إلى ذخر الإنسانية ألواناً شهية من غذاء الروح وغذاء الفكر إذا آمن به أبناؤه”.
ثم ماذا بعد الحرب؟!
خير الدنيا بجنة الله في الأرض!!
يروي د. تاج السر الترابى في أواخر ديسمبر ١٩٨٤م قائلا: “اذكر إنني كنت موجودا في جلسة حوار فكري بمنزل الاستاذ محمود محمد طه، قبل إصدار منشور الفكرة الجمهورية الشهير (هذا أو الطوفان).
تناول الحوار الفكري موضوعات عديدة، ولكن ما لفت إنتباهي وكل تركيزي، مقولة الاستاذ محمود: إذا علمتم “بأحداث” و “ثمن” تكلفة إنتزاع وإقتلاع جماعة “الهوس الديني” من جذورهم، من أرض السودان، لما تمنيتم أن تدركوا ذلك الوقت.
فسأل أحد التلاميذ الأستاذ عن تصوره لشكل تلك ألاحداث، رد عليه الاستاذ: (البلد دي، راح تكون في حالة “دمار شامل” و”خراب كامل”، خاوية علي عروشها، حتي تقنعوا من خير فيها، ثم بعد داك، تعمر.
وتلي الأستاذ محمود علي تلاميذه: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
وبعد “العمار” أردف الأستاذ:
يجيء عليكم خير، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يجيكم خير الدنيا بجنة الله في الارض”.
من بيده مفتاح هذا الخروج والخير؟!
فالنجم الساطع قد تجمر!!
علي أية حال فإن كل شيء في هذا الكون، الطويل العريض، قد خلق بقدر.
الحركات والسكنات كلها بقدر.
قدر مقاليده بيد المدبر لكل فعل، والمهيمن علي أي شيء، صغر أو كبر هذا الشيء، دورا وأثرا وقيمة.
هو سبحانه عما يصفون، يرفع بقدر الحرارة درجات تكفي لتبخر الماء، وهو بقدر يجمع، ذرات ذات الماء في طبقات الجو العليا، يعرضها، لهواء بارد يكثفها، ليجريها سحابا ثقالا، ينزله صيبا نافعا، ليحيي به أرضا كانت مواتا.
هكذا هي بذور اللقاح تحملها دائما رياح التغيير، في كل زمان، الي أي مكان، لكي تصنع التاريخ.
المهم فإن السودان الذي تجمر الي الآن بما يكفي لكي يلمع كنجم ساطع، قد بات هو في ظني أيضا قاب قوسين أو أدني، من بوابة الخروج عن هذا التيه، ينتظر أو ينتظره خير عميم.