شمائل النور .. تكتب.. السودان: البنادق تحصد أرواح بشبهة “التعاون”!
بعد عام بالتمام على سيطرة “قوات الدعم السريع” على ولاية “الجزيرة”، وسط السودان، تمكّن الجيش والمجموعات المسانِدة له، من استرداد عاصمتها “مدني”، وما حولها السبت الماضي، وعلى نحو لافت، احتفل السودانيون داخل وخارج السودان بهذا التقدم العسكري الجديد للجيش، والذي يُمهّد لاستعادة السيطرة على الولاية كاملة، ومن ثَمَّ الطريق شمالاً نحو “الخرطوم”.
والفرحة الغامرة التي عمت جميع المدن، ليس فقط لأن معركة “الخرطوم” الكبرى صارت مسألة وقت، بل لأن “قوات الدعم السريع” أحدثتْ جرحاً عميقاً في “الجزيرة”، التي عاشتْ عاماْ من الفظائع، لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، حيث لم يَسْلم إنسان ولا حيوان ولا أرض ولا سنبلة قمح، في هذه البقعة المنتجة التي كانت تُطعم السودان أجمع، قبل أن ينال منها الجوع والنزوح والتهجير القسري بفعل “قوات الدعم السريع”.
لكن لم تمر إلا ساعات بعد دخول الجيش إلى “مدني”، حتى تحولت فرحة السودانيين إلى غُمة وإحباط ومخاوف، عقب تصفيات ميدانية، وذبح ورمي في نهر “النيل” من أعلى الجسور. هذه العمليات التي تحاكي أفعال عناصر تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، نفذها مقاتلو الجيش تحت زريعة “المتعاونين” مع “قوات الدعم السريع”.
هذه الجرائم البشعة، قام منفذوها بتوثيقها ونشرها على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل متعمَّد، بالضبط مثلما كان عناصر “قوات الدعم السريع” يوثِّقون جرائمهم، وكل مقطع فيديو أفظع من سابقه وأكثر دموية وتشف. والمرعب حقاً، بيان الجيش الخجول الذي اكتفى بالإدانة مثل أي بيان لمجموعة حقوقية تراقب المشهد. على الرغم من أن قائد الجيش، رئيس مجلس السيادة، “عبد الفتاح البرهان”، أصدر قراراً بتشكيل لجنة تحقيق. إلا أن مثل هذه الإجراءات المعلَنة صارت محفوظة ومعلوم لدى الناس أنها ليست ذات جدوى: لا تُقدِّم ولا تؤخِّر.
قبل فترة قصيرة، تواترت أنباء، حول التصفيات نفسها عقب دخول الجيش إلى عدد من المناطق في “سنار” و”الخرطوم بحري”، لكن لم يكن هناك توثيق لما حدث، فبقي الأمر محل شك.
المشهد الدامي أعاد إلى الأذهان مشاهد مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في حزيران/ يونيو 2019، وأعاد السؤال اليتيم: من يحمي المدنيين من بطش البنادق التي تأخذ الناس بالشبهات وتطبِّق القانون باليد في بلد موبوء بالضغائن السياسية، التي صارت الآن مُحفَّزة بالسلاح.
من هم “المتعاونون”؟
منذ تفجّر الحرب التي تقترب من العامين، شهدت المناطق التي سيطرت عليها “قوات الدعم السريع” نزوحاً جماعياً. وما وطأت “قوات الدعم السريع” أرضاً إلّا هجرها سكانها باستثناء قلة قليلة. هذه القلة، وهي “قليلة حيلة”، قررت البقاء والتعايش بسبب ضيق ذات اليد، لأن النزوح نفسه صار درجة من الرفاهية من شدة ارتفاع تكاليف ايجار العقارات، وأسعار النقل، عطفاً على أسعار المعيشة. وبجانب هذه القلة قليلة الحيلة، يوجد في مناطق “قوات الدعم السريع” عدد مقدّر من “لجان المقاومة”، التي تحولت إلى غرف طوارئ بعد الحرب، ما يستدعي وجودها في مناطق النزاع كشرط معلوم لتدفق التمويل الذي يُصرف على إطعام الناس المكتوين بنيران الحرب، بعدما فَقد الجميع مصادر دخله وعجز عن توفير قوت يومه. وضعية الذين ظلوا بمناطقهم، وهي مناطق سيطرة “قوات الدعم السريع”، تحتّم عليهم التعامل بمستويات مختلفة مع تلك القوات، وهذا واقع ينبغي استيعابه وفقاً للحاجة الإنسانية لا أكثر ولا أقل.
كما أنه، وبعد سقوط ولاية “الجزيرة” نهاية عام 2023، ثم توغل “قوات الدعم السريع” في ولاية “سنار” في الجنوب الشرقي للبلاد، بات هناك اعتقادٌ راسخ لدى الكثيرين أن تلك القوات يمكن أن تتمدد في كل المناطق، ولن يكون هناك متر آمن. بناء على هذا الاعتقاد، شهدت الخرطوم عودة كبيرة للنازحين الذين قرروا التكيّف مع هذا الوضع، علاوة على أن تكاليف النزوح أرهقت مقدرة السودانيين الذين نفدت مدخراتهم في سداد فواتير الايجارات والنقل والعلاج، وكل ذلك طبعاً على النفقة الخاصة. أما الحكومة فهي لا تكتفي بامتناعها عن تقديم أي دعم للنازحين، بل وجّهت نيرانها ضدهم تحت هذه الذرائع الواهية، غير المسؤولة البتة.
هؤلاء المواطنون الذين فضّلوا البقاء والتعايش، يصنّفهم الجيش ومجموعاته “متعاونين مع العدو”، وتصنيف التعاون هذا لا يخضع لأية معايير، وتنتشر قوائم على مواقع التواصل الاجتماعي يعدها مواطنون، لا تخلو من تصفية الحسابات الشخصية، هي السياسة نفسها التي انتهجتها “قوات الدعم السريع” حينما اجتاحت المدن والقرى، حيث قامت بتصفيات عديدة تحت ذريعة “الفلول”، وهم عادة إما منتسبوا القوات النظامية، بمن فيهم الذي ترك الخدمة وأُحيل للمعاش، أو أي مواطن قرر مقاومتهم. ثم استهدفت أيضاً من وصفتهم ب”المتعاونين” مع الجيش. ومؤخراً، ومع تقدّم الجيش، صارت تنفِّذ حملات اعتقال وسط المواطنين، عقب استهداف طيران الجيش لمواقعهم، تحت مظان أن هؤلاء “المتعاونين” رفعوا إحداثيات المواقع للجيش. حدث هذا كثيراً في “الخرطوم بحري” وفي “نيالا” غربي السودان.
الجزيرة تحصد سموم خطابات الكراهية
لكن ما حدث مؤخراً في “الجزيرة” بعد استعادتها من قبل الجيش والمجموعات المساندة له، استهدف إثنيات محددة، وهم سكان “الكنابي”، في بعض مناطق الجزيرة و”الكمبو”، وهو تحريف من الكلمة الإنجليزية Camp””، وهو حي ملحق في عدد من قرى الجزيرة، حيث يقطنه من نزح باكراً من إقليم “دارفور” في غرب السودان، منذ الثورة المهدية، وبعد سقوطها، قبل أن تتوالى موجات النزوح بسبب الجفاف والتصحر، الذي ضرب مناطق واسعة في غرب السودان… حيث عمل هؤلاء في مشروع “الجزيرة” كعمال في الحقول. وتمثِّل ولاية “الجزيرة” نموذجاً للتعايش السلمي في مجتمع زراعي بالدرجة الأولى، لذلك حينما اجتاحت “قوات الدعم السريع” هذه الولاية الوسطية، قرر سكانها التعايش، واتفقوا على عقد بينهم، قبل أن تغدر بهم هذه القوات، التي عهدها المكر والخداع. ونال سكان “الجزيرة” نصيباً من التخوين من قِبل بعض أنصار الجيش، كونهم قرروا التعايش حينما هرب الجيش وتركهم للمواجهة.
كل هذا، لا ينفي أبداً وجود من تعاون فعلاً مع “قوات الدعم السريع” عند دخولها إلى المدن أو القرى، ومنهم من شارك في جرائم النهب والسرقة، بل أنه يمكن القول إن الغالبية من الناس، في كل المناطق، تأذّت من الجيران أو المعارف الذين قدّموا خدمات الإرشاد لعناصر “الدعم السريع” لمنازل الضباط أو المنتسبين إلى القوات النظامية، وإرشادهم للمنازل الثرية لنهب الذهب والسيارات، طبعاً مقابل مبالغ مالية أو مكاسب أخرى، وألحق هؤلاء الأذى بالناس في سرقة ممتلكاتهم.
لكن هذا لا يقتصر على إثنيات محددة، إذ لا يمكن القول إطلاقاً أن مكونات اجتماعية بعينها تعاونت مع عناصر “الدعم السريع”، على الرغم من إمكانية القول بأن هناك قبائل محددة تُقاتل مع “الدعم السريع”. ولكن، ظلت “قوات الدعم السريع” تُصدّر خطاباً، غير رسمي طبعاً، مفاده أن الانتهاكات التي حدثت في “الجزيرة” كانت من فعل سكان “الكنابي” المغبونين اجتماعياً، في محاولة منها لتوسيع نيران الكراهية ونشر الفوضى والانتقام. وقد أفلحت هذه القوات في توظيف التفاوت الطبقي الصارخ الذي استشرى في السودان خلال السنوات الأخيرة، ونجحت في توجيه كثير من الطبقات الهشة، وكذلك معتادي الإجرام، لخدمة أهدافها، بناء على خطاب المظلومية والتهميش. حدث هذا في عدد من مناطق سيطرتها، وعلى نحو خاص في “الخرطوم” التي تعرضت منازلها لسرقات غير مسبوقة من المواطنين أنفسهم، المنحدرين من هذه الطبقات الهشة.
صحيح، تحرك الحكماء في الجزيرة لوأد هذه الفتنة بخطاب متماسك، وقامت قيادات في الجيش وبعض المجموعات المسلحة المسانِدة للجيش، بزيارات لسكان “الكنابي”، وتم احتواء ما جرى بتلاحم أهلي يليق بسكان “الجزيرة”. لكن هذا قد لا يبدو كافياً ما لم تتخذ الدولة إجراءات حقيقية وتلقي القبض على الجناة، سواء كانوا جنوداً من الجيش أو من الكتائب التي تقاتل معه، لتؤكد جديتها في حماية هذه المجتمعات من الانزلاق لأتون حرب الكل ضد الكل.
على الرغم من الترقب والانتظار، ومع وصول ديناميات “الجزيرة” إلى “الخرطوم، لكن المخاوف صارت حاضرة أكثر من أي وقت مضى، إذ يجري يومياً على منصات التواصل الاجتماعي شيطنة “غرف الطوارئ” و”لجان المقاومة” ووصفها بالعمالة. ويتبنى هذا الخطاب التحريضي اللئيم عناصر النظام السابق، وضباط نظاميون، ومشايخ، وغالبية التيارات الإسلامية التي تحمل عداء معلنا ضد كل ما هو مرتبط ب”ثورة ديسمبر” التي أطاحت بحكمهم.