إنه القلب الدامي الذي تئآكل وجعاً على عمر كامل تركه خلفه للمجهول تحت أشجار حديقة منزله الحبيب..
إنه العقل المذهول اللامُصدق ما آلت إليه الحال من مرار وفقد وتهجير ووحشية وقسوة ..
إنها الروح المتقطعة أوصالها قهراً وإنكساراً و ذلاً وهواناً بعد أن كانت عزيزةً شامخةً تواقة للجمال والخير..
إنه الجسد المنهك المتهالك الذي لم يعد يقوى على حمل صخور الألم وحمّى الطريق وإحتراق الحاضر والغياب، لم يعد يعي أين الحقيقة ومالسراب..
خرابٌ خرابٌ خراب
ليلة النحيب والرحيل.. رحلة مجهولة يكتنفها الخوف، هروب من الموت إلى الموت، هروب من القصف وقنابل الهاون والطائرات الحربية، هروب مدجج بالسواد بين القفار والصحاري والأعداء يحيطون بنا ونتوقع ظهورهم من كل جانب في أي لحظة..تلهج شفاهنا بالدعاء والتحصين وآيات الحفظ والتوكل على الله تعالى.. وتكاد القلوب تبلغ الحناجر رعباً وتوجساً كلما همسوا لنا بأن نصمت تماماً إلى أن نتجاوز مناطق الخطر، والليل يزداد حلكةً.. والسيارة التي تقلنا مطفئة أنوارها إحترازاً و تسير بهدوء كأنها تحمل جبالاً وجبال.. حتى النجوم صارت بعيدة باهتة كأنها صامتة معنا، والنسائم اختفت تماماً، وصوت الجنادب وعواء الكلاب والذئاب كل ذلك اختفى حتى كاد أن يكون لأنفاس خوفنا صدى، بل حتى الأطفال صامتون كأنهم يدركون مانحن فيه من خطر.. وجميعنا نسينا الجوع والعطش وصار جل همنا التجاوز…تجاوز الهم والخوف.. تجاوز المكان والزمن.. تجاوز الواقع وأحداثه.. تجاوز دموع القهر.. تجاوز تلك اللحظات التي نتوسلها أن تمر سريعاً.. تجاوز كل شيء يرهقنا ونمقته.. تجاوز ذاتنا وكياننا و أنانا وحتى وجودنا.. تجاوز هذه البلاد المغدورة الحبيبة الكئيبة..
ضبابٌ ضبابٌ ضباب.
كل شيء أضحى داخل كهوف الضباب مبهم .
ومازالت تلك الليلة.. ليلة النحيب والرحيل تتمدد وتتمطى مع أطراف الزمن، ومازلنا بداخلها قابعون ننتظر مايسمونه ب ” شفق الصباح ” فمتى يجيء ياترى ؟.