محمود محمد خليفة
بالأمس بينما أخذ مني التعب وبلغ الارهاق مبلغه وفشلت في مهمتي في وسط البلد بالقاهرة وطالعت الواتس اب وجدت كل اخبار الحرب في بلدي السودان تؤدي للهم والغم مشفقين على اهلنا من تبق منهم داخل الوطن دلفت لمحطة ميترو العتبة عائدا لمقر اقامتي شعرت بنوبات القولون العصبي تنتاشني تماسكت وصعدت الميترو اتجاه المنيب، بالتأكيد محطتي السودان الجديد ” فيصل ” كما يسميها البعض نسبة للاعداد الكبيرة من السودانيين وخاصة الفارين من الحرب ذوي الوضع الاقتصادي المتدني، بحمدلله وجدت مساحة للجلوس في احد المقاعد وأنا افكر في الوهن الذي اصابني نظرت امامي رأيت شاب سوداني يجلس في مقعد في مواجهتي مباشرة، فقلت في نفسي الحمد لله اذا حصل لي شئ هذا الشاب سيقف معي وبما ان نوبات القولون محتاجة امرين اثنين الاستلقاء والهدوء وهذا ما لم يتوفر في صخب الاسواق وخاصة وانا داخل الميترو عندما يمر بالنفق كأن الدنيا كلها تصرخ ، على أي حال اغمضت عيني عسى ولعل أعيد توازني وعندما فتحتها وجدت نفسي محمول على ايد شابين مصريين فقلت لهم نحن فين فقالوا لي نشوف اسعاف عرفت اني كنت في غيبوبة فقدت خلالها الوعي فقلت لهم انا بخير وبدأت أرى من حولي رويدا رويدا فأجلسوني على كرسي شرطي محطة البحوث ووقفا الشابين بجانبي وهما يعرضون علي كل ما من شأنه مساعدتي اسعاف لاقرب مستشفى أو دواء من اقرب صيدلية ، فأكدت لهم بأني بخير ولا اعاني من أي مرض مزمن غير القولون الحمدلله وما هي إلا ١٥ أو عشرين دقيقة وسأنهض عادي باذن الله لا تقلقوا ثم عرضوا علي مكان استلقى فيه داخل المحطة وحينها بدأت استعيد توازني وقلت لهم ايضا الامر لا يحتاج واصرا على الوقوف بجانبي وأن يتصلوا على احد اقربائي لينتظرني في محطة فيصل أو يوصلوني لمكان سكني فقلت لهم والله الامر لا يحتاج فغادر احدهما بعد الاطمئنان علي بعض الشئ لكن الٱخر رفض مفارقتي نهائي فطلبت منه بأن اعطيه الفلوس يحضر لي تذكرة فقال لي حارس الميترو مررك دون تفقد التذكرة لانك لم تصل محطتك أكدت له أني فقدتها بالفعل فذهب احضر تذكرة دون أن يأخذ مني الفلوس وصعدنا سويا مجددا الى الميترو فعلمت بأن وجهته ٱخر محطة ” المنيب ” وانا نازل بعد محطتين أي الفيصل فاجلسني على المقعد رغم الزحام ورغم أنني اصبحت يمكن اقف طبيعي دون مساعدة ، صراحة لم يسألن أي اسئلة على شاكلة من أين وجنسيتك وبلدك وخلافه وهذان الشابان لم ينظرا الي الا بأنني انسان نعم انسان فقط ، وعرفا بأنني سوداني من خلال سؤال عفوي لرجل الشرطة في محطة البحوث ، صراحة لم اتعرف على الشاب الذي ذهب رغم تعرفي على انسانيته ولكن تعرفت علي الذي ظل واقفا بجانبي بعد استعدت وعي تماما واستجمعت قواي، فقلت له اسمك ايه فقال لي محمود محمد خليفة يا سبحان الله فأمتلأت بمزيدا من السرور تذكرت أبن عمي شقيق الوالد محمد الخليفة البكري ثم أخذت رقم هاتفه وتملكني شعور حقيقي بأنهم أي هؤلاء الشابان اهلي هؤلاء اخواني الصغار او ابنائي أو ابناء عمي أو أي واحد مجبور علي من افراد الاسرة .. نزلت في محطة الفيصل وبدأ الميترو يتحرك رويدا رويدا فكل ما حاولت انظر خلفي من النافذة الزجاجية لاردد كلمات الشكر والثناء ل محمد خليفة وعبره للشاب الٱخر وجدت نفسي عاجزا تماما لأن مثل هذه المواقف لا تجزي فيها كلمات الشكر والثناء فكان عزائي بأني لجأت لصاحب الجزاء ليجزيهم الله الجزاء الاوفى عني فهما يجسدان معنى الانسانية والمروءة والشجاعة والخلق القويم .. قد يقول قائل أنه موقف عادي وطبيعي كما قال لي محمد خليفة حينما شكرته ” فقال لي : انت برضو ممكن تعمل كدا ” والذين يقولون ذلك ينسون بأن اصلاح الأمة يبدأ بفرد وبمثل هذا العمل الانساني هؤلاء الشباب يبعثون رسالة بأننا ما زلنا بخير وما زالت الانسانية فينا كما قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ” الخير في وفي امتي الى أن تقوم الساعة ” ومثل هذه المواقف ترفع شأن الأمم وهي رسالة من شعب مصر العظيم بأنهم يقيلون العثرة وينجدون الضعيف ومثل هذه المواقف رسالة بليغة تمحو أي صورة شائهة عن شعب مصر وتجسد المعاني ” ادخلوا مصر ان شاء الله امنين ” .. نحن شعب السودان كإخوة يوسف كدنا لوطنا باساليب مختلفة إما بافعالنا او سكوتنا عن الحق فدخلنا مصر بابواب متفرقة فما كانت تغني عن الحق شيئا ولكن ” لحاجة في نفس يعقوب قضاها ” فمنا من دخل عبر المطار أو المعابر البرية وهنالك من دخل بطرق غير شرعية فكنا جميعا مكان إحتفاء وتقدير من شعب مصر وحكومته نعم اتينا بكل حاجاتنا جميلها وقبيحها فتحمل شعب مصر تناقضاتنا وعاداتنا الغريبة بعض الشئ نعم قد تحصل بعض الهنات هنا وهنالك ولكنها لا تقدح في موقف مصر النبيل بشئ ولا ينكر ذلك الا جاحد.. نعم نحن شعب عاطفي وحساس للغاية يتملكنا شخص بموقف نبيل واحد و نخسر الدنيا وبما فيها ايضا بموقف واحد وهذه من العيوب الكبيرة فينا ” اذا أكرمت الكريم ملكته واذا أكرمت اللئيم تمردا ” .. فهذه الحرب رغم قساوتها وجراحها التي لا تندمل لكنها درس بليغ لنا نراجع فيه انفسنا ونتعلم فيه من غيرنا وشعب مصر خير معلم فمصر التي فيها كيد ابناء يعقوب لاخوهم ايضا فيها يوسف وجيها في الدنيا اواب حليم، مصر التي فيها قارون الذي بسط الله له الرزق فافسد في الارض ايضا فيها التدبير الاقتصادي الذي يواجه به السبع سنوات عجاف مصر الفرعون الذي طغى وتجبر لكنها مصر موسى وهارون من انبياء الله الصالحين .. وهكذا سنة الله في الارض خلق الدنيا بجناحي الحق والباطل لذلك مصر ” ام الدنيا ” ولكن وعد الله حق سينتصر الحق ولو مد الله لاهل الباطل مدا ..
عزيزي محمد خليفة والشاب الٱخر الذي عرفت انسانيته ولم اعرف اسمه جسدتم انبل المواقف في نفسي وعبرتم عن اصالتكم واصالة شعبكم .. وموقفكم هذا تنبع قيمته في تقديمكم لقيم انسانية لشخص لا تعرفون عنه شيئا وهذه اعظم نعم العطاء والسنة المحمدية التي اجملت الدين الاسلامي كله في كلمتين ” الدين المعاملة ” ولا نملك الا نشهد لكم عند الله بانكم اديتم الامانة بهذه المعاملة الطيبة..
وايضا لا ننسى مواقف كبيرة وكثيرة من اهل مصر بمختلف مواقعهم ووظائفهم ومكاناتهم الاجتماعية لا يسع المجال لذكرهم لكن اخص منهم الزملاء الاعلاميين واخص منهم حازم عبده نبيل نجم الدين والغالية جدا مدير تحرير صحيفة الاهرام الدكتورة اسماء الحسيني ” المرأة النحلة ” التي تكاد لا تنام حتى تطمئن على ٱخر سوداني تحت رعاية مصر العظيمة فتجدها في الفعاليات الرسمية والشعبية والمناسبات الخاصة افراحها واتراحها الخاصة بالسودان والسودانيين ، وتتفجر مشاعرها يوميا عبر القنوات تعاطفا مع ضحايا الحرب وتدعو بكل صدق لايقاف هذه الفظاعات ، وجمايلها علينا على المستوى العام والشخصي لا تكافئها الكلمات.. ويبدو أن الوقت ما زال مبكرا للكتابة عن هذه المواقف النبيلة والانطباعات الانسانية عن شعب مصر ورموزه ولا نملك الا الدعاء ان يحفظ الله مصر وشعبها وان يديم الله الود بيننا ويعود وطننا وشعبنا سالما لنرد ولو القليل من هذا الدين الثقيل الذي طوقتمونا به.. ويا اهل مصر الدنيا بيكم ما زالت بخير..