“الثوار الجذريون” هم الثوار حقا.. لا يساومون حول قضايا ماثاروا الا لأجلها، ولا يبيعون على قارعة الطريق مباديء آمنوا بها، ولغيابها خرجوا لكي لا يعودوا دونها، ولكي لا يشتروا كذلك بثمن قليل زيف احلام غالية كبري، لا وجود لها بأسواق ومراكز التبضع الدولي الرخيص، التي يفتقر معروضها من السلع المستعملة المدارة، لمواصفات ومقاييس الجودة الثورية العالية، ذلك كله فضلا عن افتقار وسطاء هذه السلع المزجاة وباعتها ومروجيها، لحد أدني من ضمير حي.
لهذا ولسواه اختار هؤلاء “الغواصون السمر” جيل السودان الملحمي الجديد.. هذا الطريق الوعر الذي يمر بمفاوز وفلوات قاسية وموحشة، وبمتاهات مفزعة لا يعرف لها اول من اخر.
فقط لأنهم ادركوا بعمق كامل ان السلعة التي يتسابقون لنيلها وللظفر بها، سلعة غالية من شأنها ان تؤسس لغد مشرق جديد، ولحياة حرة كريمة.
ولذلك فقد بذل جيل البطولات، وجيل التضحيات هذا، ولازال النفس والنفيس..
نعم النفس والنفيس حقا وواقعا، لا خيالا، ولا مجازا.
فهذا الجيل المدهش والمختلف في كيميائه الخاصة، وتفاصيله الدقيقة، بدا وكأنه الجيل الوحيد الذي كسر الحاجز الوهمي بين الخيال والواقع، وبين الحقيقة والمجاز.
إذ كاد هذا الجيل ان يجسد على الارض كل مجاز لغوي تبارت عبقريات الشعراء في استثارة اخيلة الناس به.
ترجموا ان الوطن أغلى من العيون الي رد فعل اكده من فقدوا عيونهم فعلا باصابات متلفة في المواكب.. قابلوا دونها العدسات باسمين هازئين بفداحة الخطب الشخصي كأنهم في يوم عرس، محاجرهم تغطيها ضمادات طبية، لا يأبهون لها يلوحون بشارات وعلامات النصر من على اسرتهم البيضاء.. شأنهم شأن من فقدوا أطرافا أخرى من اجسادهم الشابة الفتية، بيد انهم لم يفقدوا في ذات الوقت ثقتهم بالسير على ذات الدرب العسير الذي خبروا عسرته.
بل ورغم خروج بضع وتسعين نعشا من بين ايديهم وعلى اكتافهم الي القبور في سبعة أشهر او نحوها.. الا انهم كلما فرغوا من تسوية قبر ثائر خطفه الوحش عادوا لمواجهة ذات الوحش بضراوة أشد، وبلا هوادة.. يجسدون ملحميا على الارض معني قد خطر لشاعر مبدع بان الأرض من شأنها ان تنبت الف ثائر كلما قضى ثائر، وأن أرضه المتخيلة تلك لو نضب لها معين يخرج ثائر، ستقاتل منها حتي المقابر.
ان شاعرا عربيا كبيرا زار الخرطوم.. جري على لسانه قولا موحيا وصف فيه اهل السودان بأنهم شعب اكثر شاعرية حتى من شعرائه على علو كعبهم بين شعراء العربية بالطبع.
ان هذه الشاعرية الكامنة في هذا الشعب ككمون النار في الشجر.. يترجمها وينقلها الان هذا الجيل الملحمي من مضمار القول، الي حيز الفعل بالضبط.
المهم والي ان يستبين الخيط الأبيض، من الخيط الأسود، فان هذين الخطين متوازيينَ، خط البناء والتأسيس لسلطة الشعب كاملة غير منقوصة على انقاض قديم لا يساورني أدني شك في انه مضى وانقضي.
وخط مجتر لا يخطو ولا يرى الي الان على الاقل سوي ما كان قد رأي من قبل في ذاكرة الايام.
وبرزخيون اخرون لازالوا لا الي هؤلاء ولا الي هؤلاء.
لام.. الف
“ترى هل بدأت الثورة الحقيقية التي يمكن أن تحقق للإنسان السوداني ما يطمح اليه من اي حاكم كان؟.. سواء كان امرأة او رجل، عجميا قحا او مستعربا؟”.
منصور خالد
حالتي
اشهد الا انتماء الان
الا انني في الآن لا