دكتور . التوم حاج الصافي .. يكتب .. حين يصبح السلام خيانة والحرب بطولة — حكاية الخداع في السودان
للأسف في السودان، صارت الكلمات تُقلب كما تُقلب المواجع. لو قلت "نعم للسلام، لا للحرب" فأنت خائن. لو دعوت للدم أن يتوقف، فأنت عميل.

للأسف في السودان، صارت الكلمات تُقلب كما تُقلب المواجع.
لو قلت “نعم للسلام، لا للحرب” فأنت خائن.
لو دعوت للدم أن يتوقف، فأنت عميل.
ولو رفعت شعار الحياة بدل الموت، رمَوك بتهمة دعم الأعداء.
هكذا يُشوَّه المعنى في وطنٍ أدمَنَت نُخبه السياسية اللعب بالنار، حتى صار الدخان غيمًا دائمًا فوق رؤوس الناس.
الذين يرفعون أصواتهم بالحرب، هم ذاتهم الذين باعوا الوطن أول مرة.
هم الكيزان الذين خافوا من الشعب لما خرج في ثورته، فهربوا بليلٍ، ثم عادوا في وضح النهار على أكتاف العسكر.
عادوا لأن الثورة لم تكن تملك سلاحهم المفضل: الخداع الطويل النفس.
عادوا لأن داخل الجيش رجالًا زُرعوا بعناية منذ عشرات السنين، أوفياء للفكرة لا للوطن.
عقيدة الإخوان تجري في دم بعض الضباط، كما يجري الحنين إلى السلطة في عروق من تربّوا على القهر.
أذكر في عام 2017، كنت في نقاشٍ طويل مع أحد الكيزان الخبثاء.
كان يحدثني بثقة غريبة، كأنما يقرأ من كتاب قَدَرٍ مفتوح.
قال لي:
> “حتى لو قامت ثورة، الجيش حيعيد لينا الحكم، دي سنين تعبنا فيها، زرعنا الإخوان جوّا المؤسسة، وما في زول حيقدر يقلعنا.”
كنت أظنه وقتها متغطرسًا، أعمى عن الواقع.
لكن بعد الثورة، حين اختلطت المدنية بمكر العسكر، وحين ظهر الإخوان من جديد في المشهد بملامح مغسولة، فهمت تمامًا ما كان يعنيه.
لم يكن يتحدث عن مؤامرة، بل عن حصاد طويل من الزرع المنظّم، زرع في العقول والرتب والولاءات.
وحين جاء أوان الحصاد، لم يحتج الكيزان إلى انقلاب… فقط إلى نداء قديم باسم “الجيش”.
في هذا الوطن، الكلمة المجرّدة من المصلحة تُقتل أولًا.
أن تقول “السلام” يعني أنك ضد من يتربّح من الحرب.
أن تقول “العدالة” يعني أنك تمسّ يد القاضي الفاسد.
أن تقول “الحرية” يعني أنك تهدد حياة من لا يعيش إلا داخل القيود.
ولذلك، يُشيطنون كل من يطالب بالإنسانية، لأن الإنسانية خطر على تجارتهم بالدم.
الحرب عندهم ليست مأساة، بل مشروع.
والسلام ليس غاية، بل تهمة.
هم الذين دمّروا دارفور باسم الدين، وقسموا الجنوب باسم الهوية، ونهبوا الخرطوم باسم الوطنية.
واليوم يعودون بملامح جديدة، يتحدثون عن “السيادة” و”الأمن القومي”، بينما عيونهم ما زالت تبرق شهوة للحكم.
لكن الحقيقة مرة، وواجبة القول:
السودان لن يتعافى ما دام الجيش رهينة لفكرٍ أيديولوجي، وما دام السياسي يلبس عباءة الواعظ وهو في داخله تاجر حرب.
الثورات لا تموت، لكنها تُخدر حين يختلط صوتها بأصوات من سرقوها باسم الإنقاذ أو الإصلاح أو الوطن.
واخيرا ياكيزان :
نعم، قلتها وسأقولها ألف مرة:
نعم للسلام، لا للحرب.
ليس لأنني خائن أو عميل، بل لأنني سوداني تعب من المقابر المفتوحة والشعارات الملطخة بالدم.
الحرب ليست بطولة، بل عجز.
والسلام ليس ضعفًا، بل وعي.
ومن يخاف من الوعي، لا يريد وطناً… بل يريد قطيعًا.
د التوم حاج الصافي .خبير علاقات دولية












