نهى ابراهيم السالم.. تكتب.. ( عيون لاجئة) ..( إعتقيني )!
فجأة تلاشى الهدوء يومها و صار النهر يجري بأقصى سرعته بفعل ركض الأسماك المذعورة عندما دوت المدافع وتعالت أصوات الرصاص وأبواق السيارات وصراخ الناس ..
هذه الذكرى المؤلمة مازالت تلتصق بجدران عقلي وتتحداني أن أستطيع محوها للحظة، كلما سهوت عنها أجدها تضرب بكعبها العالي أرض أروقتي ، وكلما غفوت أصحو مرعوبة ببشاعة ضحكتها الساخرة، وكلما خرجت كى أنسى أراها تقتفي أثري وتلتف حولي كالإعصار تحملني نحو اللاوجود ثم تلقي بي في بحر من الهواجس داخلي ..
أين بلادنا.. أين أهلنا وحياتنا بيوتنا وأحلامنا وصوتنا.. كيف دخلنا في هذا الكابوس القاسي بلا رحمة
وكيف الخروج منه؟
قديماً كنا نظن اللون الأحمر لون الحب لأنه لون القلب وأزهار الروز والتوت والغروب والياقوت .. والآن عرفنا أنه أيضاً لون الحرب.. لون الدم الذي يلطخ الطرقات ويختلط بدموع الأمهات وأعين الأباء قهراً وحزناً.. لون الإنفجارات والشظايا والقلق والحرائق والشياطين..
كيف جمع هذا اللون بين متضادين؟ عذب فرات وملحٌ أجاج _ هل يلتقيان…؟
اااهٍ أيها القلب الدامي على أرواح تشردت في وطن أضحى ذي مسغبة.. أرواح تطاردها مقصلات الفناء والفقد والعوز و الوقت والواقع المرير أينما حلّت .
الناس أعياها التفكير في طوق نجاة حتى من التفكير نفسه..
… أسمع صوت بعيييد يدندن..
أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريقِ
يانشيداً في دمي يحيا ويجري في عروقي..
ثم يضحك بألم
ويدندن أخرى : شمسك طلعت وأشرق نورها بقت شمسين.. مواقف مابتتراجع تاني.. بقيف قدامها وأقول للدنيا أنا سوداني..
ويضحك مرة أخرى طويييلاً .. ويصمت بعد غصة .
ثم صوت الريح يضرب جدران الحيرة يعقبه صوت طفلة صغيرة تهمس لأمها : أمي متى نعود لبيتنا أحس بالبرد والخوف ؟
تجيبها الأم بالبكاء وتضمها علّها تحس الدفء والأمان المزيف..
أمي كيف سافر أبي وأخي إلى الجنة؟
تجيبها الأم بالبكاء مرة أخرى..
أمي لماذا كل يوم تقولين لي غداً سيأتينا طعام ولا يأتي. متى سنأكل؟
تجيب الأم ببكاء أعمق..
أمي أين جدتي؟؟ حسناً حسناً لاتبكي لن أسألك مرة أخرى..
أمي .. أمي.. أمي؟
هل نمتي؟
أعذريها حبيبتي إذ أنها نامت للأبد /
فارقت الأم الحياة جوعاً وقهراً وعجزاً في ذاك العراء البارد.. بل حري أن نقول أنها نجت من الحياة تاركة طفلتها للمجهول… .
فهذا ابسط سيناريو واقعي في قلب الحرب الأسود..
ثم ماذا بعد؟ ولانقول سوى ياااااا الله.
تمر علي الليالي مرور اللئام وأنا في المنفى داخل وطني.. زادي الدمع والكثير من الحنين، كل الطرقات والفيافي والقرى والمدن والأرصفة والقلاع والكهوف والحقول والسهول والفصول والموانئ التي عبرتها كلها تقود إلى ألف فكرة فاشلة لخلق حياة طيبة آمنة وادعة ولو بالقليل.. الجسر مهترئ والضفة الأخرى هوة سحيقة.. كل المعابر أُغلقت بالإنتظار والعدم فالعين بصيرة واليد مبتورة.. وحب هذي البلاد العزيزة الكسيرة يظل عنيداً يقاوم كل العواصف بكل إرتياح رغم النواح وتلك الجراح .
في ليل المنفى كان المصباح عنيداً يرفض أن يشتعل رغم كل محاولات أعواد الثقاب المسكينة التي إحترقت سُدىً في سبيل حفنة ضوء.
والقمر مسافراً أو هارباً لا أدري فالنجوم مختبئة خلف ظلام مخيف منذ وقت طويل .
في ليل المنفى جحظت العيون ومات النوم وبدأ ميلاد السهد السرمدي وتجمدت القهوة وذابت الخطى في رمل الغياب، فأكتب أيها القلم على صفحات ذاكرتي من جديد
( فجأة تلاشى الهدوء يومها…….هذه الذكرى المؤلمة مازالت تلتصق بجدران عقلي وتتحداني…… إلخ)
وأرسمي أيتها الحرب خارطةً لتفكيري تهديني الطريق و إعتقيني .
بقلمي.. نهى ابراهيم سالم