لا أنظرُ لحربِ السودان منذ إندلاعھا كحدثٍ مُنفصلٍ، يجري بمعزلٍ عن التفاعلات والإرتدادت والھزات العنيفة، التي زلزلت بادي ذي بدء، أقدام قادة وعناصر “الثورة المضادة” لثورة ديسمبر المباركة، رغم أن ھذه الھزات علي عنفھا لم تضرب “الثورة المضادة” عناصرا ومعاقلا في مقتل حقيقي، يرمي بھا ليقبرھا في مذبلة التاريخ، أو ليقضي عليھا قضاء مبرما يشل أطرافھا عن النشاط والحركة.
ولھذا أري في ھذه الحرب رغم انتھاكاتھا الضخمة، وفظائعھا الكبيرة، ومھما كان موقف الناس منھا، أو نظرتھم لھا، أري من خلف غبارھا الكثيف، مزايا تتخلل بلاياھا الكثيرة، ومنن تأتي طي محنھا العظيمة.
أري أنھا حرب قد أنبعثت، بغض النظر عن اطرافھا والداعمين لھا، كنتاج طبيعي لواقع ملتبس، تم تعقيده وتخليطه بِعمدٍ وعناية، واقع صُنِّعَ أصلا وبدأب علي مدي ثلاثة عقود او أكثر، لمقاومة فرضية قيام إنقلاب أو ثورة شعبية، تنشأ لتقويض سلطة ونظام “الاخوان المسلمين” في السودان.
ھذا النظام الذي ھو نظام صنع علي عين عرابه “حسن الترابي” منذ فجر أول يوم لإنقلاب الثلاثين من يونيو (89)، علي صيغة ماكرة مفخخة لأبعد حد، صممت لكي تحول دون سقوط ھذا النظام سوي بالذھاب الي حرب فادحة الثمن، حرب لا تبقي ولا تذر، تقضي علي اخضر ويابس البلاد، يدفع ثمنھا في النھاية الجميع قربانا للتخلص من حكم “الأخوان” لو أنھم أرادوا ذلك، وإلا فالبقاء الي حين نزول “عيسي” وھو ما كانوا يمنون به أنفسھم، أو يتحدون به علي الأقل الناس.
وبالتالي فإني أنظر لھذه الحرب التي فرض قيامھا وجود مثل ھذا الواقع الموضوعي المعقد، كطور مھم بل وضروري من أطوار ثورة ديسمبر المباركة، طور يمھد لبلوغ غاياتھا القصوي، ولإستكمال أھدافھا الكبيرة.
المھم فإن “ثورة ديسمبر” منذ أن أوقد الله نارھا، جاءت ھي ھكذا.. ثورة تذھب بالعمق ونحوه.
يتكاثر اعداؤها يوما بعد يوم، كلما تدحرجت جمرتها المقدسة نحو حمى ومصالح حزب مسيطر، او جهة مستأثرة، أو من مواريث أسرة مبجلة، أو بخلاف ذلك الكثير من تَركةِ القديم.
فهي ثورة مباركة بمعني الكلمة، تجري وقائعھا علي الأرض بلطف الھي لا يخفي، فقد قادھا في ظاھرھا “غواصون سمر” مهرة، أنبتھم خالقھم، كما ينبت عشب مغامر بين مفاصل صخرة.
أتوا من بعيد ليحفروا عميقا، ولكي يكتبوا نهاية السودان القديم بعلاته وعاھاته التي نعرفها جيدا.
بيد أنھم حين لامسوا شيئا من اللحم الحي لھذا القديم المتمترس، زج سدنته وحراس مصالحه، ھكذا البلاد برمتھا في أتون حرب.
حرب برغمھا أعتقد ان ذات ھؤلاء الغواصين طال الزمن بھم أو قصر، سيكونوا ھم وحدھم من سيكتب بعدھا، سفر تكوين “السودان الجديد”، ھذا السفر الذي لا يفصلنا عنه سوي يوم تضع فيه ھذه الحرب أوزارھا.
إنه “سودان جديد” ربما لا نعرف الي الآن علي الأقل ملامحه جيدا.
“سودان جديد” ستصنعه قوي ثورة ديسمبر الشابة الفتية والتابعين لھا، وتابع التابعين منھم باحسان الي يوم ھذا “التكوين”.
ھذه القوي الثورية الفريدة التي حظيت بإعتراف الدنيا والعالمين، والتي مثلت نقطة مضيئة في كتاب تاريخ ھذا الكوكب المعاصر.
قطعا ستكون عاقبة ما بعد ھذه الحرب اللعينة، رغم أنف وضجيج دعاتھا ورعاتھا ومن شايعھم بغباء وجھل.. ستكون لھؤلاء الثائرين، الذين ناجزوا كافة أشكال القديم البالي الذي فقد ھويته، قبل ان يفقد بلا أدني شك مبررات وجوده بالكامل.
بل أن جمرة ثورة ھؤلاء الشباب “المقدسة”، يقيني أنھا ستبقي متقدة تحت ھذا الرماد، لطالما ظل ھذا الجيل مشرئبا بأعناقه، يتطلع بِصبرٍ وثَباتْ رغم ھذا الجحيم لبناءٍ غدٍ أفضل.. نعم ھو غدٌ لم تتبلور الي الآن ملامحه المشرقة بصورة كاملة.. بيد أنه غد يتخلق في الحقيقة، رويدا رويدا، وطورا بعد طور.