القاهرة _ مركز اتون للدراسات : ترياق نيوز
تشتد المعارك في السودان وتتعقد الأزمة في أبعادها السياسية أكثر فأكثر يومًا تلو الآخر، وللأسف دخلت البلاد نفقًا مظلمًا لم ير بعد ضوء في نهايته، مع مواصلة طرفي الحرب (الجيش والدعم السريع) قتالهم لنحو 14 شهرًا دون توقف ودون أي تقدم يذكر لأي من المبادرات التي تطرح للحل، ما يفرض تساؤلات عدة حول مستقبل السودان.
في هذا السياق، عقد مركز آتون للدراسات السياسية حلقة نقاشية جديدة حول مستقبل الأزمة السودانية، وكانت بحضور لفيف من المتخصصين والمعنيين بالشأن السوداني وعلى رأسهم الكاتبة الصحفية أسماء الحسيني المتخصصة في الملف السوداني والشأن الأفريقي، والسفير صلاح حليمة مساعد وزير الخارجية الأسبق ورئيس بعثة جامعة الدول العربية سابقًا في السودان، وعدد من الشخصيات السودانية أبرزهم صديق الهندي الشريف رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي المركز العام والسيد إمام الحلو رئيس لجنة السياسات في حزب الأمة القومي، والأستاذ السماني الوسيلة وزير الدولة للشؤون الخارجية السوداني سابقًا.
أمن قومي مصري
وقبل أن ينتقل الحديث إلى ضيوف الحلقة النقاشية، قدم الكاتب الصحفي فتحي محمود مدير مركز آتون للدراسات التحية للحضور الكرام من أبناء الشعب السوداني الشقيق من مختلف القوى السياسية ووجهات النظر والتيارات، معتبرًا أنه إذا كانت الحلقة تناقش الوضع في السودان لكنه في نفس الوقت تناقش ضعًا مصريًا بالدرجة الأولى، كون السودان جزء من الأمن القومي المصري.
وأكد محمود أن ما يجري في السودان الآن يمس بشكل مباشر الأمن القومي المصري، لافتًا إلى أن الحلقة النقاشية ستتضمن آراءًا مهمة تساهم في المساعدة على وضع خارطة طريق يمكن أن تساعد في حل الأزمة السودانية، وأعرب عن أمنياته أن يتجدد اللقاءات مع الأشقاء السودانيين في مركز آتون وفي مصر بصفة عامة، ولكن في ظل سودان قوي وموحد وظهير قوي لمصر والأمة العربية جميعها.
توقيت بالغ الأهمية
واستهلت الكاتبة الصحفية أسماء الحسيني التي قدمت الحلقة حديثها بالتأكيد على أن هذه الحلقة النقاشية تأتي في توقيت بالغ الأهمية وبمشاركة عدد من الشخصيات المهمة، وقدمت التحية إلى جميع المشاركين، مشيرة إلى أن ملايين من أبناء الشعب السوداني واجهون حربًا عبثية وموتًا مجانيًا ووحدة الدولة كلها على المحك.
ولفتت إلى خطورة ذلك وقالت إنه “يفتح أبواب جهنم” على مصر وجميع الدول العربية، معربة عن اعتقادها بأنه قد حان الوقت ليقوم العقلاء وأصحاب الحكمة لإخراج السودان من وضعه الحالي، مشيرة إلى أن الحلقة ستركز على توصيف الوضع الحالي في السودان، ومدى إمكانية أن يكون هناك حسم عسكري، ومستقبل الصراع العسكري، وكذلك فرص السلام في ظل المبادرة المصرية المطروحة لجمع الأشقاء السودانيين بمؤتمر نهاية الشهر الجاري وعوامل إنجاح هذه الفرصة التي تدعو لها القاهرة.
هذه هي أسباب الأزمة
وكانت بداية الحديث من قبل السفير صلاح حليمة الذي لفت إلى طبيعة العلاقات التاريخية بين البلدين وكيف أن الأمن القومي لمصر والسودان وجهان لعملة واحدة، وهناك كثير من المصالح المشتركة نتيجة هذه العلاقات، مشيرًا إلى أن هناك رافدين للعلاقات بين البلدين هما نهر النيل والبحر الأحمر، ولكل منهما تأثيره من الناحية الاقتصادية وكذلك الأمنية والاستراتيجية.
وأكد حليمة أن مصر يهمها الحفاظ على وحدة السودان وسلامة أراضيه، وتمسك القاهرة بعدم التدخل في شؤون السودان، وقال إن وضع السودان باختصار شديد يعود إلى ظاهرة الانقسامات والصراعات الداخلية بين مكونات المجتمع السوداني بكافة الأطياف، وحتى داخل كل حزب وتكتل هناك انقسامات، وهذه الأمور تزيد من تأزم الموقف السياسي.
ولفت حليمة إلى أن هذه الانقسامات في المشهد السوداني ترتبط بالصراع على الثروة والسلطة والهيمنة، معربًا عن أسفه أن وراء كل حزب أو تجمع سياسي نوع من التدخل لقوة إقليمية ودولية، مشيرًا إلى أن هناك عديدًا من الأطراف التي قدمت مبادرات وكلها ربما قطعت شوطًا لكنها وقفت عند مرحلة معينة ولم تحقق الهدف المنشود، ولهذا بات هناك موقف داخلي وخارجي تدور حوله الصراعات على نحو جعل المبادرات ليست ذات نتائج إيجابية.
الخطورة، وفق حليمة، تكمن في أن الصراع أخذ شكلًا عسكريًا بين المكونين العسكريين الرئيسيين (الجيش والدعم السريع)، ثم في المجتمع السوداني نفسه أن بعض القوى تدعم طرفًا منهما، مشددًا على أن الصراع في ظل هذا الوضع لن يحسم لطرف على حساب الآخر، لأن الطرفين مهما كانت قوة كل منهما لدى كل طرف من يدعمه وأيضًا هناك قوى خارجية تدعمه.
خطورة الوضع في السودان
وتحدث السفير صلاح حليمة أكثر عن المخاطر التي قد تنتج عن هذا الوضع، إذ قال إن ذلك قد يؤدي إلى تقسيم السودان، لأنه صراع له خلفية قبلية واجتماعية وربما دينية أو عرقية، وكل هذه أمور تدفع إلى تقسيم البلاد خاصة أن هناك توجهات لدى بعض الولايات ذات نزعة انفصالية أو تميل للاستقلال، وبالتالي يتم تأجيج تلك النزعات خاصة أن هناك قوى خارجية تدعم تلك التوجهات، في ظل حالة النزوح الضخمة وإفراغ بعض الولايات من سكانها، ليصبح السودان أمام أسوأ المواقف التي شهدها.
ويرى أنه وسط ذلك يجب أن تكون هناك مبادئ يتم التمسك بها وعلى رأسها وحدة السودان، وعدم التدخل في شؤونه، وأن أي حل للمشكلة السودانية يجب أن يكون سودانيًا، فلا حل خارجي على الإطلاق للأزمة، لأن كل قوى خارجية تبحث عن مصلحتها، وربما تكون مصلحة إحداهما سيطرة أحد طرفي الصراع على وسائل السلطة والثروة والنفوذ، ونحن نعلم جيدًا أن السودان من أغنى الدول الأفريقية بثرواته المختلفة، وفقًا له.
وحول كيفية الوصول إلى تسوية، يقول السفير صلاح حليمة إنه إلى جانب المبادئ التي سبق الإشارة إليها، فإن هناك كثيرًا من المبادرات التي قدمت ويجب التعاطي مع ما هو إيجابي منها، مشيدًا في هذا السياق بالمبادرة المصرية، ومؤكدًا ضرورة أن يكون هناك توافق بين الكتل السياسية والشعب السوداني خاصة في ظل صعوبة القول إن الأخير يدعم أيًا من طرفي النزاع، وإنما يميل إلى أن تكون المؤسسة العسكرية هي المنوط بها حماية الدولة ومصالح الشعب السوداني، على أن يتم تطويرها لتعكس في تكوينها مكونات الشعب السوداني، وأن يكون لدى البلاد جيشًا غير مسيس.
ويرى حليمة ضرورة أن يكون هناك أيضًا توافق على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وقال إن هذا كان مبدأ موجودًا من قبل، مشددًا كذلك على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة، ولفت إلى أنه يجب أن يكون هناك توافق من القوى السودانية دون تدخل خارجي على مجموعة من المخرجات لإخراج السودان من وضعه الحالي، وأن يكون هناك وقف لإطلاق النار والتوافق على كتابة دستور جديد، وأن تكون هناك شمولية لمشاركة كافة القوى والأحزاب ولكل الموضوعات التي يتم مناقشتها.
غياب دور القوى المدنية
وانتقلت الكلمة إلى السيد صديق الهندي الذي أكد أن الأزمة السودانية معقدة لدرجة يصعب وصفها، وهي أزمة كانت مرحلة تتعلق بأزمة الديمقراطية التي انتهت مع النظام السابق بثورة، وهذه الثورة تحولت إلى أزمة جديدة في شكل شراكة تبين مع الوقت أنها بين ممثلي النظام القديم وممثلي الثورة، لكنها شراكة تعثرت منذ اليوم الأول.
وأشار إلى ظاهرة فض اعتصام وزارة الدفاع في يونيو من عام 2019 الوحشي الذي كان بمثابة انقلاب على الاتفاق الهش بين العسكريين والمدنيين، صحيح أن الفريق أحمد عوض بن عوف استقال ونائبه لاحقًا، لكنه هو الذي عين الرئيس الذي أتى بعده في إشارة إلى الفريق عبدالفتاح البرهان، فكيف أنتم كنتم ضده ورفضتوه ولما رحل هو من اختار من يشرف على قيادة الجيش وخريطة الثورة؟!، وبالتالي كنا أمام مؤشرات عدة بأن هناك صراع.
ويلفت إلى أن من فضوا الاعتصام هم من يتصارعون بينهم اليوم أي قوات الجيش وقوات الدعم السريع، وعندما اختلفا للأسف الشديد توزعت انحيازات القوى السياسية والمدنية بين الطرفين لتدور الحرب والصراع العسكري الحالي المرحل، وهو مرحل لأنه عبارة عن صراع بين القوى العسكرية التي تعبر عن النظام القديم.
وشدد على أن غياب القوى المدنية غير المنحازة لأحد الطرفين كان سببًا رئيسيًا في الأزمة، فيما ظلت المبادرات التي تقدمها القوى غير المنحازة ليست ذات تأثيرها “كما أنك تقرأ كتابًا قديمًا”، وهذا الغياب مسؤوليتهم أنفسهم وليس مسؤولية أي طرف آخر، مشيرًا إلى أن التحالف العسكري المدني الذي كان في البداية أقصى الثورة، وحدثت الصراعات بين العسكريين والمدنيين وتمكن العسكريون من إقصاء المدنيين، وقاموا بعدة انقلابات انتهت بـ25 أكتوبر.
وضع بالغ السوء
وأشار إلى أن المجتمع السوداني مشكته أنه موزع إقليميًا وقبليًا، وبالتالي أي مبادرة تطرح تعتمد على قبول الشعب السوداني لها وليس ممثليه سواء كانوا في الداخل أو الخارج، لافتًا إلى أن المجتمع السوداني يعيش واقعًا بالغ السوء، ويشهد انقسامًا وصراعًا بين قوى مدمرة.
وقال إن الجيش السوداني أخفق في تحمل مسؤولياته الدستورية والقانونية، مشددًا على أنه لا يوجد إنسان عاقل يؤيد الفوضى والدمار وقتل المدنيين وطردهم من مناطقهم بين نزوح ولجوء، ووسط هذا استنكر أي انحياز أعمى لأي من طرفي الصراع أي الجيش في مواجهة الدعم السريع، لافتًا إلى أن المبادرة المصرية عندها قابلية للنجاح ويمكنها الاستفادة من كل إخفاقات المبادرات السابقة.
مخطط تقسيم الشرق الأوسط
وانتقلت الكلمة إلى السيد السماني الوسيلة الذي أعرب عن شكره للقائمين على هذه الحلقة النقاشية ولمركز أتون للدراسات، وقال إن ما يدور في الإقليم وما يدور في السودان تحديدًا يعتبر ضمن مسلسل مقصود منه في نهاية المطاف الإقليم كله وبالضرورة منه مصر، لافتًا إلى أنه مسلسل بدأ منذ السبعينات وبشر به من قبل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر وتحدثت عنه مادلين أولبرايت ثم كونداليزا رايس والمقصود هنا الحديث عن إعادة تقسيم الشرق الأوسط وبدأ الأمر بالعراق ثم سوريا وليبيا واليمن والآن السودان.
وأضاف أن الحرب الآن توسعت بصورة تجاوزت مسألة تغيير سلطة إلى حرق شعب بالكامل من سلب ونهب وقال وسرقات، وبالتالي هناك إشكالية في أن التسوية هنا ليست مرتبطة بما يجري بين طرفي الصراع الرئيسيين وإنما بما جرى بحق الشعب، فلو أوقف الجيش الحرب ماذا عن حقوق المواطنين الذين سرقوا وهجروا؟.
وأعرب عن رؤيته عن أنه لكي تقف فإن علينا النظر إلى وضع الحركة السياسية السودانية التي عليها أولًا أن تتوحد، ولا بد أن يكون لها دور حقيقي على الأرض، حتى لو بوحدة نحو 70% من الحركات الحالية.
وقال إن المؤكد أنه سيأتي يوم وتنتهي الحرب، لكن الأهم ماذا عما بعد الحرب، ماذا عن الدقيقة الأولى بعد الحرب؟، هذا يعود إلى اتفاق القوى السياسية المدنية ليس فيما يتعلق بوقف الحرب فقط، وإنما ما بعد وقف الحرب أي كيف تدار هذه البلد في الفترة الانتقالية التي يجب ألا تحمل فيه بما لا طاقة لها به وعليها معالجة القضايا السريعة كالجوانب الأمنية ووضع أسس الحوار الوطني السوداني وتأمين المرحلة الانتقالية.
مأساة حادة
بدوره، قال الأستاذ إمام الحلو إن السودان يعيش مأساة شديدة الحدة، وقال إن موقف حزب الأمة من الحرب الحالية ثابت وقائم على الإدانة المطلقة للحرب ووقفها الفوري غير المشروع ومعالجة آثارها المأساوية وإحقاق العدالة والإنصاف، مشددًا على أن الحزب لم ولن ينحاز لأي من طرفي القتال ولا يستعدي أيًأ منهما، وفي الوقت ذاته يدين الجرائم البشعة التي ترتكبها قوات الدعم السريع في مناطق سيطرتها، ويدين القصف الجوي والتدمير المدفعي من قبل الجيش بما طال المدنيين والممتلكات والمباني والآثار التاريخية، كما يتمسك بأن كافة الأعمال القتالية الحالية تخالف القانون الدولي.
وأعرب عن قناعته بأن الحرب الدائرة من صنيعة نظام الإنقاذ المباد، لحماية النظام الأحداي الفاشيستي الذي أسسته الجبهة الإسلامية بإنقلابها المشؤوم عام 1989، لافتًا إلى أن الاكتفاء باقتلاع رأس النظام في 11 أبريل عزز السلطة المشتركة للجيش والدعم السريع في إدارة المرحلة الانتقالية، ولم يتم ترك الفرصة لقوى الثورة الحقيقية لاستيفاء مراحل ثورة ديسمبر النبيلة، والتي على رأسها تغيير النظام الشمولي للإنقاذ.
وأعرب كذلك عن أمله أن تكلل مساع وقف الحرب بالنجاح، مؤكدًا أن سيناريو التفاوض له شروط يجب حسمها، وأولها ضرورة أن تكون هناك تعبئة شعبية شاملة مناهضة للحرب ومطالبة بالحل التفاوضي سواء في الداخل أو الخارج، مشيرًا إلى أنه كانت هناك مظاهرات للسودانيين في دول المهجر من أجل وقف الحرب، وفي الداخل لا بد من أن تكون هناك حملة شعبية من أجل هذا الأمر.