مصباح أحمد محمد .. يكتب.. في ذكرى ثورة ديسمبر المجيدة، أيهما أصح: نزع الشرعية أم استعادة شرعية الثورة؟
تمر علينا هذه الأيام ذكرى ثورة ديسمبر المجيدة التي إنطلقت في ١٣ ديسمبر ٢٠١٨ كأعظم ثورة وحدت السودانيين حول أهداف الحرية والعدالة والمساواة والسلام والديمقراطية، واستطاعت أن تقتلع أعتى دكتاتوريات الفساد التي مرت على تاريخ السودان.
إن ما حققته ثورة ديسمبر المجيدة من تلاحم وطني وتوحيد للوجدان السوداني يشكل إنجازًا وطنيًا فريدًا رغم التحديات التي واجهتها والمقاومة المستمرة من أصحاب الردة السياسية وسدنة النظام البائد.
تمر علينا هذه الذكرى وبلادنا للأسف الشديد تعيش تحت وطأة نيران الحرب الإجرامية، التي أشعلها المستبدون الجدد وفلول النظام البائد، مستهدفين بصورة مباشرة تصفية الثورة وإعادة الإستبداد عبر فوهة البندقية. ورغم فشل الحرب الإنقلابية وتحقيقها لعكس مقاصدها، إلا أن دعاتها وداعميها لا زالوا يسعون لإطالة أمدها مستخدمين كل الوسائل غير الأخلاقية من خطابات الكراهية والعنصرية والتوحش والدعاية الحربية بغية تحقيق أهدافهم ومصالحهم الذاتية على حساب المصلحة الوطن.
إن الحرب الحالية أفرزت إنقسامات إجتماعية وسياسية حادة، وعمقت الأزمة الوطنية، وأبرزت مواقف متطرفة بين أطرافها تتبنى خيارات عدمية إقصائية. إن استمرت، فإن نتائجها ستكون كارثية على وحدة البلاد ومستقبلها، وتماسك نسيجها الاجتماعي ، ولذلك فإن المخرج الوحيد من هذه الأزمة هو العودة لتحقيق مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة المتمثلة في الحرية والعدالة والمساواة والسلام والحكم الديمقراطي الراشد. ولن تتحقق هذه الأهداف إلا بتوفر الإرادة الحقيقية لكل القوى الوطنية، لا سيما قوى الثورة، لتوحيد صفوفهم من أجل رفض الحرب وسحب أي شرعية لدعاتها، واستعادة شرعية الثورة والشعب لإنهاء الحرب وتأسيس الدولة على أسس جديدة عبر توافق سياسي شامل ينهي حالة الانقسام المجتمعي والسياسي، ويتصدى لخطابات الكراهية والعنصرية والتحريض والتقسيم، ويعلي من خطاب إفشاء السلام والتعايش السلمي، ويحقق تطلعات الشعب السوداني في الحكم الراشد.
إن الحاجة باتت ملحة لتعاقد إجتماعي جديد يتجاوز فيه السودانيون مرارات الماضي وتجاربه الفاشلة، ويؤسس لمرحلة جديدة من عمر الوطن تنتهي فيها حالة التشظي والإنقسام والحروب والإقصاء والتمييز والتهميش.
إن أكبر تحديات بناء دولة ديمقراطية في السودان تتمثل في مدى القدرة على تأسيس نظام فيدرالي تتحقق فيه مبادئ المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، مع التمييز الإيجابي لبعض المناطق التي عانت من الحروب المتكررة، وكذلك القدرة على وضع حلول جذرية لإنهاء كل مظاهر السلاح خارج المنظومة الأمنية بإعادة بناء المؤسسات العسكرية بصورة قومية ومهنية بمشاركة متوازنة لكل أقاليم السودان. كما تشكل قضية انتشار السلاح مهددًا حقيقيًا مما يتوجب ضرورة نزع السلاح وحصره في المؤسسات العسكرية والأمنية لضمان إنهاء الاقتتال القبلي وتحقيق التعايش السلمي، بالإضافة لضرورة إجراء إصلاحات قانونية ومؤسسية ، وتفكيك بنية التمكين الفاشستي، ومعالجة التحديات الاقتصادية ورفع العقوبات الدولية على السودان ليتمكن الإقتصاد السوداني من استعادة التعافي وبناء اقتصاد قوي معتمد على التوظيف السليم لموارد البلاد المتنوعة.
وفي هذا التوقيت، فإن الدعوات لنزع الشرعية قد أحدثت جدلًا واسعا حول المصلحة نفسها. فهل هنالك شرعية أصلًا؟ الصحيح برأيي هو أنه لا شرعية أصلًا منذ انقلاب ٢٥ أكتوبر لأي من أطراف الحرب، والشرعية الوحيدة هي شرعية الثورة. إن الدعوة لتشكيل حكومة من بعض الأطراف رغم مبرراتها الموضوعية نظرًا لما يحدث من الحكومة في بورتسودان، إلا أنها محفوفة بمخاطر جمة يجب النظر إليها بتمعن في ظل حالة الهشاشة التي يعيشها الوطن، وحالة الانقسام، وإصرار أصحاب الردة من دعاة الحرب علي جر البلاد نحو سيناريوهات التقسيم وذلك عبر الاستهداف الجهوي والقبلي والمناطقي وحرمان المواطنين من حقوقهم الدستورية والحصار الاقتصادي وإعاقة العمل الإنساني في أكثر من نصف البلاد. في ظل هذا التوجه الإجرامي، فإن تشكيل حكومة غير متوافق عليها من قاعدة واسعة من القوى المدنية سيحفز أصحاب منهج التقسيم للاستمرار في نهجهم. فلابد من التوفيق بين تحقيق الوحدة الوطنية كأولوية وبين ومطالب المناطق المتأثرة والمتضررة من الحرب والمجموعات المختلفة.
ولذلك فإن نزع الشرعية يتحقق بالتأكيد على شرعية الثورة فقط وعدم وجود شرعية لأي طرف من أطراف الحرب، وذلك لا يتأتى إلا بوحدة المكونات المدنية والتوافق على تحقيق أهداف الثورة برؤية وطنية موحدة لرفض الحرب والضغط لإنهائها، وإغاثة المواطنين المتأثرين من الحرب.
إن تشكيل حكومة عبر الشرعية التوافقية هو الصحيح لتحقيق الأهداف الوطنية، ومن الممكن أن يتحقق ذلك بعد بناء الجبهة المدنية العريضة التي شارفت مشاوراتها على الإنتهاء، واستكمال الحوار السوداني السوداني عبر المائدة المستديرة التي سيتم التوافق فيها على المشروع الوطني الذي يحقق الأهداف المرجوة.
ورغم قتامة المشهد وانسداد الأفق، إلا أن الفرصة مواتية الآن والحاجة ملحة لتلاحم وطني بين كل الحادبين علي مصلحة الوطن بتوحيد المواقف وتجاوز الخلافات لاستعادة تماسك اللحمة الوطنية التي حققتها ثورة ديسمبر المجيدة.
إن الواجب الديني والوطني الآن هو التنادي العاجل لبناء أوسع جبهة مدنية لإنهاء الحرب كأولوية لإنقاذ الوطن وتحقيق السلام، فلا صوت يعلو فوق المصلحة الوطنية ولا عطر بعد عروس.
إذا التف حول الحق قوم فإنه
يصِّرم أحداث الزمان ويبرم
musbahahmed99@gmail.com