بين الرفض والعزلة.. هل تخطئ الحكومة السودانية مجدداً في قراءة مجلس حقوق الإنسان؟
في السادس من أكتوبر الجاري، أجاز مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مشروع قرار بتمديد ولاية بعثة تقصي الحقائق بشأن

بقلم: السفير الصادق المقلي
في السادس من أكتوبر الجاري، أجاز مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مشروع قرار بتمديد ولاية بعثة تقصي الحقائق بشأن الانتهاكات في السودان لعام إضافي، وذلك للمرة الثالثة على التوالي.
القرار مرّ بسهولة نسبية بـ (24 صوتاً لصالحه)، مقابل (11 ضدّه) وامتناع (12 دولة) عن التصويت، لكن دلالاته السياسية كانت أعمق من مجرد أرقام تصويتية.
انقسام إفريقي وتأييد غربي كامل
فقدت المجموعة الإفريقية في المجلس وحدتها التقليدية التي كانت دوماً سنداً للخرطوم. إذ لم يصوّت إلى جانب السودان سوى جنوب إفريقيا، بينما امتنعت ثماني دول — بينها الجزائر وكينيا — وصوّتت ثلاث دول ضد القرار.
وفي المقابل، صوّتت جميع دول المعسكر الغربي، بما فيها اليابان وكوريا الجنوبية ودول أوروبا الشرقية، تأييداً لتمديد ولاية البعثة، ما يعكس تحولاً واضحاً في المزاج الدولي تجاه الحكومة السودانية.
حرب الفظائع.. والضمير الدولي
يأتي هذا التمديد على خلفية تقارير متتالية للجنة تقصي الحقائق وصفت ما يجري في السودان بأنه “حرب الفظائع”، وأكدت ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
كما ربط القرار الجديد وقف الانتهاكات الحالية بضرورة إيجاد حل سياسي شامل للأزمة السودانية، ودعا إلى دعم الجهود المدنية لإنهاء الحرب، مشيراً إلى مؤتمري تقدم في أديس أبابا والقوى المدنية في القاهرة، بجانب تحالف صمود.
خطأ حكومي متكرر
منذ إنشاء بعثة تقصي الحقائق في أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة السودانية رفضها القاطع للبعثة، وحرمتها من تأشيرات الدخول، ثم طالبت بإنهاء ولايتها دون أن تنتظر نتائج عملها.
وجاء البيان الرسمي — آنذاك — مرتبكاً ومتعجلاً، إذ برّر الرفض بأن اللجنة “تساوي بين الجيش والدعم السريع” قبل أن تبدأ عملها!
النتيجة أن السودان خسر فرصة ثمينة، لأن 80% من الانتهاكات الواردة في تقارير اللجنة والمفوض السامي فولكر تورك منسوبة إلى قوات الدعم السريع، أي أن تعاون الحكومة مع البعثة كان يمكن أن يصب في مصلحتها، لا ضدها.
من يمثل السودان؟
الخلل لا يقتصر على الموقف السياسي فحسب، بل يمتد إلى البنية الإجرائية. إذ أن رئاسة النائب العام لوفد السودان إلى جنيف تمثل خطأً واضحاً، لأن وزارة العدل هي الجهة المختصة بملف حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وليس النيابة العامة.
وعلى مرّ العهود، قاد وفود السودان إلى مجلس حقوق الإنسان رموز قانونية بارزة من وزارة العدل، من أمثال عبد العزيز شدو وعبد الباسط سبدرات ومحمد بشارة دوسة، وصولاً إلى نصر الدين عبد الباري خلال الفترة الانتقالية.
صوت عاقل وسط الضجيج
في خضم هذا الموقف المتصلب، برزت الدكتورة رجاء، المسؤولة عن ملف القانون الدولي الإنساني بوزارة العدل، لتدلي برأي جريء وصادق، أكدت فيه أن الحكومة أخطأت في تعاملها مع البعثة الأممية، ودعت إلى التعاون مع آليات حقوق الإنسان بدلاً من مواجهتها.
موقفها لا يمثل ضعفاً، بل وعياً سياسياً وقانونياً ناضجاً يدرك أن الحوار مع المجتمع الدولي أجدى من الصدام معه.
رسالة إلى صناع القرار
لقد تغيّر العالم، وتبدّلت لغة العلاقات الدولية. لم يعد الإنكار والمكابرة يجديان.
التعاون مع مجلس حقوق الإنسان لا يعني الخضوع، بل يعني امتلاك زمام المبادرة في الدفاع عن السيادة والمصالح الوطنية، بدلاً من ترك الآخرين ليتحدثوا باسمنا.
إن الإصرار على رفض كل ما يصدر عن المجلس لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والتشكيك، وربما يفتح الباب لتدخلات أوسع وأشد وطأة.
لقد آن الأوان لأن تعيد الحكومة السودانية النظر في مواقفها، وأن تستمع للأصوات العاقلة داخل مؤسساتها قبل أن تخسر آخر ما تبقّى من رصيدها الدولي.
في النهاية، من يصرّ على الصدام مع العالم في زمن الكوارث، لا يخسر الجولة فحسب… بل يخسر نفسه أيضاً.













