ذكريات عالقة على جدران الهاربين من جحيم الحرب في الخرطوم

السودان- محمد عبدالباقي
رغم أن الأجواء كانت تنذر بقرب نشوب الحرب، لكن أحدٌ لم يعد عدته لمغادرة بيته في الخرطوم، وحين أرتفعت أصوات الأسلحة في سماء الخرطوم صبيحة 15 أبريل/ نيسان 2023 في عراك دام بين الجنرالين عبدالفتاح البرهان قائد الجيش ومحمد حمدان دقلو”حميدتي” قائد الدعم السريع، بدأ السكان وكأنهم في حُلم.
لأول مرة يحدث هذا في العاصمة، تنشب حرب، تحلق طائرات حربية، وتقصف أهدافاً وسط الأحياء، ويموت الناس ولا يجدون من يقبرهم.
ورغما عن ذلك البعض من الناس لا يرغبون في مغادرة بيوتهم، أملاً في حدوث معجزة توقف القتال، لكن الحرب لم تتوقف حتى بعد مرور 22 شهراً.. آنتهى زمن المعجزة.
المعارك ضارية، والقتال يزداد عنفوانا، يوماً بعد يوم، وتعرضت المدينة التي يُوصف أهلها أنفسهم بالطيبين لعملية نهب لم سبق لها مثيل.
مشاهد مئات اللصوص يقتحمون الأسواق أو المنازل والبنوك ويفرغوها من محتواه صار مألوفاً تماماً.
الهُدن التي يخترحها العسكريون بأنفسهم يخرقوها ولا أحد منهم يلتزم بالإتفاقيات الموقعة بينهما، تقول ريم (28 عاما)، وتتابع ” لا أحد يتخيل ما يجري، ما كنا نشاهده ونسمعه في أجهزة الأعلام عن الفظاعات في مناطق الحروب في بلدان قصية، صرنا نعيش تفاصيله”.
ريم التي درست الصيدلة بالهند، هى أحد الذين استهوتهم سلمية ثورة ديسمبر التي فجرها الشعب السوداني في العام 2018 ضد حكم الرئيس المعزول عمر البشير الذي حكم لثلاثين عاماً.
رفضت ريم العيش مع أسرتها المقيمة بالسعودية، وعادت إلى السودان في العام 2020، وأسست لها مسكناً بحي المعمورة مع شقيقتها التي تدرس الهندسة المدنية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، وبدأت حياتها الجديدة في سودان ما بعد ثورة ديسمبر بكثير من السرور.
ورغم أنها واجهة مصاعب جمة خلال الثلاثة أعوام التي قضتها في الخرطوم، حيث تقطع الكهرباء ثلاثة أيام في الأسبوع في البلد الذي تتجاوز درجة حرارته 46 مئوية بين مارس/ أذار، ومايو/ أيار، وغلاء طاحن في أسعار المواد التمونية، مقابل دخل شخصي متدنِ للغاية، لكنها كانت تنتظر رؤية بلدها ترفل في كنف حكومة مدنية تحسن الوضع الإقتصادي المتدهور، وتوفر الخدمات الأساسية، وتبسط الأمن وتجلب السلام إلى المناطق التي لازالت توجد بها جماعات متمردة على الحكومة المركزية.
تقول ريم من القاهرة التي وصلتها بعد رحلة شاقة أنها خسرت أموالاً طائلة كانت قد أنفقتها على شراء أشياء مهمة، جلبتها من الهند والسعودية وجنوب أفريقيا لتأسيس شقتتها بالخرطوم، التي لم تتوقع أن تهرب منها تحت جنح الظلام تاركة خلفها ذكريات حياتها ومشاريعها المستقبلية التي كنت تخطط للقيام بها.
كثيرة هى المقتنيات التي لم تتمكن ريم من أخذها وتركتها في شقتها التي علمت لاحقاً أن اللصوص بعثروا محتوياتها على سلم المبني لعدم معرفتهم بقيمتها المعنوية، ولكنها تتذكر بحسرة الصور التي التقطتها لجموع المحتجين السلمين أثناء الحراك الثوري، وللأمهات والأباء الذين كانوا يتقدمون المواكب التي تجوب الطرقات ويقودها شباب وشابات لجان المقاومة، ولملوك الإشتباك وغاضبون الذين كانوا يحمون المواكب من عسف الشرطة والأجهزة الأمنية.
تقول ريم كل شىء فقدناه في هذه الحرب، نستطيع شراؤه، إلا ذكرياتنا، وحميمة الأماكن التي عشنا فيها، سوف نفقدها للأبد.
إما غادة كدودة الأستاذة بجامعة الخرطوم، كانت متمسكة بالبقاء في الحي الذي هرب منه كل السكان، قضت أسبوع وحدها في الشقة، على أمل عودة الجيران، كانت ترى اللصوص يكسرون أبواب المنازل وينقلون كل محتوياتها، في وضح النهار، ولكن في النهاية نضب صبرها، فأغلقت الباب خلفها وعلقت عليه لافتة على أمل أن يقرأوها قبل بعثرت أشياء لا تهمهم، تقول :” هنا لا يوجد كاش أو ذهب، توجد الكثير من الذكريات والكتب”.
وغادرت، وهى على يقين أن اللصوص الذين كانوا يسرقون منازل الجيران، أمام ناظرها لن يتأخروا كثيرا عن فعل ما حذرته منه في الرسالة التي تركتها على باب شقتها.
وكتبت على صفحتها على الفيسبوك تحكي عن قصتها قائلة “أنا موجوعة ومكسورة ومهمومة مثل كثيرين، فقدوا كل ما يملكوا في هذه الحرب اللعينة، بينهم من حالته أسوأ لفقدانه شخص عزيز عليه”، وتتابع ” بيتنا شيدهأبي وأمي، بحب وبعرق جبينهم.. بعد ما شارفوا على المعاش.. كان هذا بعد عقود من السكن في بيوت الإيجار أو الحكومةأو مستضافون في البيت الكبير.. شقتي الصغيرة فيه، كانت مليئة بذكريات حياتي، وأشيائي أحضرتها من البلدان التى زرتها أو عشت فيها”. وتضيف “في تلك الشقة التي غادرتها، تركت مكتبتي التى جمعتها كتاب كتاب”.
وحين انهالت التعليقات المواساة على كدودة، كانت تقول أنها ليس حزينة على الأشياء المادية التي يتوقع أن تتعرض للسرقة، ولكنها حزينة على فقدانها لمكتبتها وذكرياتها الحميمة وأشياء صغيرة تركتها في مكانها، ولم تكن تستطيع حملها معها لأن رمزيتها تكمن في وجودها في تلك الشقة.
ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد الفارين من الحرب في الخرطوم، ولكن التقديرات تشير إلى أن عددهم تجاوز 8 مليون شخص.
وتأمل كدودة في توقف الحرب حتى يعود الناس الذين فروا بأرواحهم، مجدداً لبيوتهم ويستعيدوا فيها ذكرياتهم الماضية، وتعلق بالقول “الأمل ترياق الحروب.”
إما إبراهيم يعقوب (89 عاماً)، ولد في حى الهاشماب العريق بأم ردمان، في منزل يفصل بينه وسرايا الإمام محمد احمد المهدي شارع واحد فقط، جميع أولاده هاجروا لخارج السودان، منهم من أستقر في كندا، أو أمريكا، وبلجيا والمملكة العربية السعودية، ظل يرفض الهجرة، رغم أنه يحمل جوازاً بريطانياً، وعندما يطلب منه أبنائه اللحاق بأحدهم في الدولة التي يرغب في الإستقرار بها، يرد عليهم بجملة مغتضبة ” ليس في العمر بقية للهجرة”.
لم يكن إبراهيم يتوقع أن تكون الخرطوم في يوم من الأيام مسرحاً لحرب غير مسبوقة في تاريخ المدينة الحديث، ويضطر للفرار تاركا خلفه ماضيه وذكرياته ومكتبته التي تحوى ألاف الكتب بين الجدران، وفي بهو المنزل صورة جده الذي شارك مع المهدي في فتح الخرطوم عام 1885، وفي خزانة العائل ترك إرشيف وصور عائلته، وماضيها.
يقول إبراهيم من الرياض التي نقله إليها أحفاده، إنه يفضل الموت على ترك منزله نهباً للصوص، ويضيف “نجوت بجسدي، لكن روحي تركتها هناك في الخرطوم”، ويقول لأحفاده”لو مت انقلوا جسدي إلى أم درمان، وأدفنوني بالقرب من جدي في مقابر أحمد شرفي”.
أجبرت حرب الجنرالين غير الضرورية الكهل على المغادرة، وهو على يقين أن العمر لميبقى فيه الكثير للعودة وأن ما يربطه بالمكان مجرد حنين وذكريات قضت عليها الحرب.
وبعد ما يقرب من العامين على بداية حرب منتصف أبريل ومع استمرار قصف الطائرات والمدافع وكثرت اللصوص لازال كثير من الهاربين يأملوا في بقاء ذكرياتهمعالقة على جدران منازلهم في الخرطوم.