اعمدة

فضيلي جمّاع.. يكتب.. إعلان نيروبي.. اختراق وضربة معلم أخرى !

 

 

 

 

     في خضم الحرب التي تعلن نذرها كل يوم بأنّ استمرارها لا يعني مزيداً من موت وتشريد ونزوح وجوع الملايين فحسب ، بل واختفاء خارطة وطن بأكمله من أطلس العالم. ووسط دوي الراجمات وأزيز الطائرات التي كل مهامها أن تسقط البراميل المتفجّرة على إنسان وحيوان قرى لا يعرف قاطنوها في الهامش العريض لماذا قامت هذه الحرب أصلاً ، وماذا يجري في الدنيا ليقتتل الناس.. في خضم حرب بهذا الوصف البشع ، وإذ الإحباط هو السحابة الداكنة التي تزور كل سوداني قبل أن ينام وعند الصحو .. في خضم هذه الفجيعة لاح في آخر النفق أول أمس بقعة ضوء.
تناقلت وكالات الأنباء إعلان نيروبي الذي كسر حاجز الصمت ، ونزل برداً وسلاماً على الكثيرين ، بينما نزل كالصاعقة على البعض! وحين أقول بأنه نزل كالصاعقة على البعض ، ذلك لأنّ صمت المدافع والراجمات ، وسكوت أزيز الطائرات، وتلاشي مسببات سحل الأبرياء وتناثر جثثهم في الطرقات يعني عند البعض أنهم سيفقدون وإلى الأبد ما سرقوا واكتنزوا باسم الله ، وتذهب معه شهوة السلطة التي جلسوا في غفلة من الزمن بهيبتها على شعب يتلقاك بالحضن – رغم قلة الزاد – وعلى الوجه ابتسامة تسبقها عبارة: (حبابك عشرة بلا كشرة)!! الذين وقع عليهم نبأ إعلان نيروبي للوقف الفوري للحرب وإيصال الإغاثة للملايين وجلوس السودانيين في مائدة مستديرة لإقامة وطن يسع الجميع – الذين باغتهم الخبر وشل تفكيرهم هم الذين يرون في وقف الحرب زوال كرسي الدم الذي طالما جلسوا عليه!
كاتب هذه السطور يقف بطبيعة الحال ​ضد الحرب، لأنه يعرف أنها – أي الحرب – هي أكثر الوسائل غباءاً لحل المشكلات. وأنه متى ما وجد الإنسان فرصة لإخماد نار الحرب قبل أن تشتعل ، فإنّ عليه أن ينتهز تلك الفرصة ليبعد شبح الخراب والدمار. تابعت مثل الكثرة من أبناء وبنات بلادنا ما جاء في (إعلان نيروبي) الذي جلس للتفاكر حوله ثلاثة من أبناء هذا البلد ، لا يشك في حسهم الوطني وما قدموا من تضحيات لإنسان هذا الوطن إلا ذو غرض .. والغرض مرض!! ولأنّ الخبر في عالم السياسة لا يصنعه من ينطبق عليه القول: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا ، بل يصنع الخبر الجاد من يعملون في صمت وبعزيمة. وأظن أن هذا ما نتج عنه إعلان نيروبي للقادة الثلاثة الذين يعرف ثقل وزنهم في مجريات السياسة في بلادنا اليوم كل مهتم بالشأن العام.
طالعت مقالات في مواقع سودانية بالميديا . ووصلتني في بريدي الخاص مقالات ورسائل ممن أعرفهم وأتواصل معهم. ومقالات وتعليقات من آخرين لم أتشرف بالتواصل معهم من قبل. فحوى هذه الرسائل لا يعرف كلاماً وسطاً. فكاتبوها إما أنهم مع إعلان نيروبي في المجمل – حتى وإن وضعوا علامات استفهام أمام بعض ما رشح في مبادئ الإعلان من عبارات لهم فيها رأي مختلف. وهذا أمر طبيعي ، فإعلان نيروبي جهد سوداني بأيدي سودانية ، وليس كتاباً منزلاً. وهم بهذا مع الإتجاه العام لما يرمي إليه الإعلان من وقف للحرب الهمجية الجارية، وهم قطعاً مع بناء ما ذكره الإعلان من بنود أذكر بعضها – وقد وضعته بين القوسين حسب صياغة الإعلان : فلا أظنهم يقفون ضد: (وحدة السودان شعبا وأرضا، وسيادته على أرضه وموارده.)
ولا أظنهم يقفون ضد: (تأسيس دولة مدنية غير منحازة. وتقف على مسافة واحدة من الأديان والهويات والثقافات.) كما لا إخالهم يرفضون : (تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة وفقا للمعايير المتوافق عليها دوليا، تفضي إلى جيش مهني وقومي واحد يعمل وفق عقيدة عسكرية جديدة وينأى عن العمل السياسي والنشاط الاقتصادي بصورة كلية.)
والذين قرأت ترحابهم بإلاعلان – وهم الكثرة الغالبة لا أظنهم يقفون ضد بند يقول :
(معالجة تركة الانتهاكات الإنسانية من خلال العدالة والمحاسبة التاريخية.)
أو يرفضون بنداً يقول: ( عقد اجتماع مائدة مستديرة تشارك فيه كل القوى الوطنية المؤمنة بالمبادئ المضمنة في الاتفاق.)
أما أولئك الذين وقع عليهم نبأ إعلان نيروبي فعل الصاعقة فهم أحد إثنين: شخص يشعر بالدوار والغبن لنجاح الآخر ، حتى لو كان نجاح الآخر يصب في مصلحته. وهؤلاء شريحة لا يستهان بها من المتعلمين والمثقفين والساسة. يصعب أن يقرأوا الحدث من زاوية الهم الوطني إن لم يشاركوا في صناعته! لقد حاولت حكومات الإنقاذ بقضها وقضيضها أن تستميل القائد عبد العزيز الحلو أو الأستاذ عبد الواحد محمد نور .. لكنها فشلت. بينما ظل التواصل بين الدكتور عبد الله حمدوك ، رئيس الوزراء السابق والقائد عبد العزيز الحلو – حسب معلومتي- قبل أن يجلس حمدوك على سدة رئاسة مجلس الوزراء ، بل قبل ترشيحه للمنصب بسنوات. كما إن علاقة حمدوك بالأستاذ عبد الواحد محمد احمد النور لم تنقطع ، ويسودها الود والثقة والإحترام. والسياسي الذكي هو الذي يستثمر رصيد علاقاته في كل مجال إلى حين حاجته إليه. وهذا ما قام به عبد الله حمدوك في هدوء شديد. ودون فرقعة .. ليلقي بحجر في سطح جدول فتنداح دوائر الماء. فوجود وليام روتو رئيس جمهورية كينيا الشقيقة هو استثمار آخر لعلاقات خبير الإقتصاد والحوكمة عبد الله حمدوك وهو يسهم بكل ما في وسعه لبلدان القارة الأفريقية في التنمية والحوكمة مما أكسبه مكانة كواحد من أبناء القارة الجديرين بالإحترام. لذا لم يكن بدعاً أن يؤم حفل التوقيع الرئيس وليام روتو مشاركاً بكلمة طيبة. وواعداً بما ستبذله بلاده بكل ما تستطيع في دعم استقرار ووحدة السودان.
قلت بأنّ من وقع عليهم خبر إعلان نيروبي إثنان: حاسد يؤذيه نجاح الآخر ولو كان الآخر رفيقه وفي صفه ما لم يكن هو الشريك في صناعة هذا النجاح بحق أو بدنه!
أما الصنف الثاني ممن أوجعهم خبر إعلان نيروبي ، فلا يستحقون أن أضيع وقتي في الحديث عنهم. يكفي أنهم سيملأون الأرض عويلاً يوم تقف الحرب التي أشعلوها ، ويوم يبدأ شعبنا المسار الجديد لثورة ديسمبر في بناء الدولة المدنية الديموقراطية في سودان جديد يكون قوام كل فرد من أبنائه وبناته بالتساوي: له الحقوق وعليه الواجبات.
وكأني أرى شمس ذاك السودان الجديد حمراء طالعة في الأفق!

فضيلي جمّاع
لندن
في 20 مايو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى