قصة علاقة إيران بالسودان لم تبدأ اليوم وانما تعود الي ثمانيانيات القرن الماضي،عندما إعتلى الخميني عرش السلطة في طهران وعده أصحاب مشروع الاسلام السياسي في المنطقة العربية نصرا لهم ومن ضمن تلك الجماعات كانت جماعة “أخوان السودان”،أو مايعرف محليا بـ” الحركة الإسلامية” حيث كان منسوبوها في جامعة الخرطوم أكبر الجامعات السودانية خلية نشطة للتبشير بافكار النظام الايراني الجديد وتوزيع مخطوطات زعماءه في اروقة الجامعة ووصل الامر ان اعتنق بعضهم المذهب الشيعي في ظاهرة غريبة على الشعب السوداني.
تطورت العلاقة عقب استيلاء الجماعة على السلطة في السودان بانقلاب 30 يونيو 1989،الذي دشن عهده بعداء سافر مع الدول العربية وخاصة مجموعة دول الخليج،وتبني بشكل صريح الخطاب الايراني تجاه تلك الدول، ومد جسور التعاون مع طهران وتوج الامر بتعاون في مجال الصناعات العسكرية فكان تاسيس منظومة الصناعات الدفاعية الحالية وخاصة مصنع اليرموك، الذي ضربته الصواريخ الاسرائيلية في اكتوبر 2012م، غير ان الضغط الدولي، والمدافعة المحلية اجبرا النظام إلي الاقدام على قطع تلك العلاقات في يناير 2016 إثر الهجوم على السفارة السعودية في طهران،لكن كثير من الدوائر أعتبرت قرار قطع العلاقات قرارا شكليا قامت به الحكومة بينما ظل التنظيم الاسلاموي يحتفظ بخطوط تواصله مع النظام الايراني عبر حلقة داخلية ضيقة، ممايعني إعلان قطع العلاقات لم يكن سوى تحصيل حاصل لا ينهي التعاون العسكري السوداني – الإيراني الممتد منذ تسعينات القرن الماضي وان جعله يتم بشكل غير مرئي
مع بداية العام الحالي تزايدت الشواهد والادلة على انخراط ايراني مباشر في الحرب المندلعة في السودان ، وعضدت تلك الشواهد المخاوف المحلية والاقليمية والدولية من ان تتحول حرب السودان الي حرب بالوكالة وتصبح جزءا من الصراع الدائر في البحر الاحمر.
في الأسبوع الأول من يناير الماضي، أعلنت قوات “الدعم السريع” إسقاطها لمسيّرة إيرانية من طراز “مهاجر 6″، واعتبرته دليلًا يؤكد الدعم الإيراني للجيش السوداني، وتلى ذلك بأيام أن نقلت وكالة “بلومبرغ” في تقرير نشرته في الثالث والعشرين من ذات الشهر عن مسؤولين غربيين إن إيران زودت الجيش السوداني بطائرات دون طيار من نوع “مهاجر 6” مؤهلة لمهام الرصد ونقل المتفجرات
وأكدت الوكالة أن “أقماراً اصطناعية التقطت صوراً لطائرة دون طيار من نوع ’مهاجر 6‘ الإيرانية، في قاعدة وادي سيدنا، شمالي أمدرمان، الخاضعة لسيطرة الجيش
وقال ثلاثة مسؤولين غربيين، للوكالة التي حجبت هوياتهم إن “السودان تلقى شحنات من طائرة مهاجر 6، وهي مسيرة ذات محرك واحد تم تصنيعها في إيران، وتحمل ذخائر موجهة
فيما أظهرت المعارك العسكرية في منطقة أمدرمان القديمة خلال فبراير وحتى منتصف مارس وجود ومشاركة المسيّرات الإيرانية في ساحة تلك المعارك التي انتهت بسيطرة الجيش على مقري الاذاعة والتلفزيون.
وتوالت من بعد ذلك التقارير الإعلامية إلتي تؤكد قيام طهران بإمداد الجيش السوداني بأسلحة متنوعة أبرزها مسيّرات من طراز “مهاجر”، كما ترددت أنباء خلال زيارة وزير الخارجية السابق علي الصادق الي طهران عن تقديمه “حزمة مطالب” للإمداد بالسلاح، لكن تلك الأنباء نقلت تحفظات إيرانية مخافة وقوع تلك الأسلحة في يد إسرائيل لعلاقة التطبيع بينها والخرطوم، لذلك فإنّ طهران اقترحت إرسالها بمعية مستشارين، ولاحقًا في مارس 2024 ترددت أنباء عن طلب إيراني بإنشاء قاعدة عسكرية على سواحل السودان في البحر الأحمر مقابل إستمرار الإمداد بالسلاح، وهو ما قيل إنّ الخرطوم لم توافق عليه،لكن تظل انباء عدم الموافقة ضعيفة في ظل استمرار تدفق الاسلحة الايرانية إلي السودان.
في 12 من أبريل الماضي كشفت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ليندا جرينفيلد في تصريحات نقلتها وكالة “رويترز”، أنّ بلادها أجرت محادثات مباشرة مع الدول المتهمة بإذكاء الصراع في السودان، وأنّ واشنطن حضت دول المنطقة للضغط على إيران لكف تدخلها في الحرب السودانية،مما يعني بالضرورة ان الوجود الايراني بات مسجلا في المضابط الدولية ويصعب ضحده عبر بيانات النفي والتطمين التي درجت عليها حكومة بورتسودان منذ أعلان قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان عن عودة العلاقات مع طهران ولقائه بالرئيس الايراني إبراهيم رئيسي على هامش مشاركتهما في القمة العربية الإسلامية الاستئنائية التي عُقدت بالعاصمة السعودية في نوفمبر من العام الماضي، تلتها في فبراير 2024 أول زيارة رسمية لوزير الخارجية وقتها السفير علي الصادق للعاصمة الإيرانية طهران.
أهداف ايران:
مثّلت حرب السودان المندلعة في 15 أبريل 2023، سانحة جيدة لإيران لاستعادة نفوذها في السودان،لاهميته الاستراتيجية إذ ظل خلال حقبة حكم “الاخوان” أحد أهم المعابر الرئيسية للسلاح الايراني للتنظيمات المتطرفة التي ترعاها، الي جانب وجوده على البحر الاحمر الذي يشهد حالة من حالات الحرب إضافة الي انه من الناحية الجغرافية مشاطئا للمملكة العربية السعودية ومحادا من الجنوب لجمهورية مصر العربية وهما أكبر الدول المناهضة للمشروع الإيراني في المنطقة.
ولعب السودان في ظل نظام “الاخوان” الذي اطاحته الثورة الشعبية السلمية في العام 2019م رأس الرمح لسياساتها الهادفة الي زعزعة الاستقرار وخلط الاوراق السياسية في المنطقة،و في ظل الصراع الدائر الان وارهصات اندلاع حرب بينها واسرائيل، لابد لايران من التفكير في مد يد العون لجماعة الاخوان في السودان بغية اعادتها الي السلطة لاستعادة نفوذها من واستخدام ذلكم النفوذ كورقة ضغط علي خصومها في المنطقة العربية وهو واحد من تكتيكات مشروع الاسلام السياسي الذي تعتمد عليه إيران.
ويمكن تلخيص اهداف ايران من التدخل في حرب السودان في ثلاثة اهداف رئيسية،أولها إظهار تفوّق صناعاتها العسكرية وفعاليتها وحرب السودان هي ساحة ترويج وتسويق وإثبات جودة المعدات العسكرية الإيرانية في المعارك.
ثاني الأهداف هو قطع الطريق أمام توجه السودان الجديد القائم على التطبيع مع اسرائيل وتوقيعه على اتفاقات “ابراهم” من خلال تمكين حلفائها في تيارات الاسلام الراديكالي من السلطة، لا سيما مع إمكانية تصدّر هذه المجموعات للمشهد وزيادة تأثيرهم مستقبلًا إذا ما انتهت الحرب بإنتصار عسكري أو سياسي للجيش والمجموعات المساندة له.
الهدف الثالث من الوجود الايراني في مسرح الحرب السوداني “تكتيكي”، فالسودان لا يقع ضمن دائرة النفوذ الإستراتيجي المرتبط بإيران سياسيًا أو مذهبيًا مقارنة بساحات عربية أخرى كالعراق وسوريا ولبنان وحتى اليمن مؤخرًا، كما أنه يعد من البلدان الاسلامية التي لاينتشر فيها المذهب الشيعي، ويعد عمقا استراتيجيا لمصر ودول منطقة الخليج العربي في مواجهة المشروع الإيراني، لذا لا يمكن تجاهل ربط البعض التحركات الإيرانية في السودان مجددًا منذ أكتوبر الماضي، بفرضية تعزيز وجودها وتمركزها على سواحل البحر الأحمر،الذي يشهد تشديد الحلفائها على حلفائها الحوثيين باليمن.
تناقضات البرهان:
قرار طهران إستئناف العلاقات مع السودان يواجه تعقيدات عديدة، في مقدمتها أن توجّهات “سودان اليوم” تختلف عن تلك التي كانت بالامس، فقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان هو صاحب إجراءات التطبيع الرسمي مع إسرائيل واللقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برعاية يوغندية في عنتبي في فبراير 2020، ما يطرح سؤالًا أساسيًا حول أمكانية تحقيق أهداف طهران من المشاركة في حرب السودان الحالية،وذلك لايخرج من افتراضين الاول أن طهران وجدت تعهدات قطعية من تنظيم الاخوان المسلمين صاحب العلاقة الراسخة معها والنفوذ القوي داخل الجيش السوداني بتغيير الرجل فور انتهاء الحرب، أو ان الرجل استدار 180 درجة في سياسته الخارجية وهذا هو الارجح.
خطورة الدعم:
الدعم لأي من أطراف الحرب هو تحول كبير في اتجاه أن تصبح حرب بالوكالة لأطراف إقليمية ودولية في كجزء من صراع النفوذ في المنطقة وهذا ما يطيل من أمد الحرب في السودان لذلك لابد من تحجيم التأثير الدولي والإقليمي الذي يدعم استمرار الحرب والضغط للتوصل لوقف الحرب وبالاساس يجب عزل “الحركة الإسلامية” و”المؤتمر الوطني” من التأثير على قيادة الجيش للابتعاد عن ذلك التنظيم الذي عزز انهيار الدولة من أطماعها في العودة للسلطة باستعادة تحالفاتها الإقليمية والدولية التي كانت تقوم على التناقضات في المنطقة، ومعلوم أن مشروع الحركة الاسلامية الراديكالي المتطرف يعتمد علي دعم الجمهورية الاسلامية الايرانية لحلفائها في المنطقة والذي يقوم بالأساس علي خلق عدم الاستقرار في عدة مناطق.
واتضح بعد مرور عام على الحرب في السودان أن اطرافها باتت تسعى على غير هدى لايجاد الدعم الذي يساعدها على مواصلة الحرب وهو ما يدفع أطراف عديدة للاستفادة من هذا الوضع في تحقيق مختلف المصالح سوي كانت مرتبطة باستغلال الموارد التي يتمتع بها السودان أو مرتبطة بالنفوذ السياسي وهو ما يعني المحافظة على الأسباب التي تضمن أن تستمر الحرب في السودان وفق السيناريوهات التي تبقي علي حالة هشاشة الدولة وعدم الاستقرار الذي
الموقف الدولي:
الموقف الدولي والإقليمي يحتاج بلورة استراتيجية للتعامل مع الوضع في السودان يعتمد في الأساس علي علي الموقف من الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وخطورة استعادة تحالفاتهم الإقليمية وتأثيرها على الحرب وارتباطها بالقضايا الاقليمية مثل أمن البحر الأحمر والصراع الفلسطيني الاسرائيلي، لان الحرب في السودان عوامل استمرارها الخارجية أكبر من عواملها الداخلية بمعنى أنها مرتبطة بدرجة أكبر بما يدور في الإقليم والتحولات الدولية وهو جزء من صراع النفوذ على المنطقة وصراع المشاريع في منطقة الشرق الاوسط.
ايضا التحولات الإقليمية في الملف الفلسطيني الإسرائيلي لها تأثير على الملف السوداني من خلال الدور الايراني المؤثر علي الحرب في غزة وارتباطه غير المباشر الحركة الاسلامية، ومن ذلك نخلص الي ان التدخل الايراني يعد من أخطر انواع التدخلات في هذه الحرب التي تشابكت اطرافها واختلطت اهدافها.
—
عضو تنسيقية ” تقدم”