كل شيء في هذا الكون، الطويل العريض، قد خلق بقدر.
فالحركة والسكون كلها بقدر، قدر مقاليده بيد المدبر لكل فعل، والمهيمن علي كل شيء، صغر أو كبر هذا الشيء، دورا وأثرا وقيمة.
هو سبحانه عما يصفون، يرفع بقدر الحرارة درجات تكفي لتبخر الماء، وهو بقدر يجمع، ذرات ذات الماء في طبقات الجو العليا، يعرضها، لهواء بارد يكثفها، ليجريها سحابا ثقالا، ينزله صيبا نافعا، ليحيي به أرضا كانت في عداد الأموات.
هي هكذا بذور اللقاح تحملها دائما رياح التغيير، في كل زمان، الي أي مكان، لكي تصنع التاريخ.
انظر لمجريات لطفه الخفي كيف تقع؟.. اذ لما اسبغ سبحانه وتعالي، عنايته علي يوسف عليه السلام، اضطر قافلة كاد يقتلها الظمأ في بيداء قاحلة جافة، للبحث عن مظان للماء، لتعثر القافلة علي بئر، تصبح هي ذات البئر التي رمي فيها إخوة يوسف اخاهم، لكي يخلو لهم وجه ابيهم كما ظنوا، ليتم له الخلاص من كيد من ارادوا التخلص منه، علي يد هؤلاء “السيارة” الذين اظمأهم طول المسير، وفق سيناريو مدهش يقف عاجزا امامه حتي خيال “هوليود”، اختطته يده القدر في لوح الأزل.
ثم في طور اخر من هذه القصة المثيرة، وجد عزيز مصر الذي حرم من الابناء، ضالته في ذات الصبي يوسف المعروض للبيع عبدا، ليتبناه من بعد ابنا.
فقد ربط سيناريو القدر ربطا محكما، بين يوسف والحاجة، حاجة الناس لشيء مفقود، هذه الحاجة التي اضحت كلمة السر تقريبا في قصة يوسف، من الفها الي يائها، فكلما احوج الله اناسا لشيء وجدوا ضالتهم عند يوسف أو فيه، والي أن حار الملك في تفسير رؤياه الغريبة التي لم يجد في النهاية بدا، من اخراج سجينه يوسف، لكي يفك طلاسمها المعقدة.
ثم أضحي احتياج مصر كلها للطعام، في وقت الجدب هو خيط السر الرفيع، الذي رفع به يوسف، بما اتاه الله من علم نادر، وميزات فريدة، ليصبح من بعد هو عين “صبي الجب المغدور”، و”العبد الممتهن المباع”، و”الحبيس ظلما بفرية إمرأة العزيز”، عزيزا لمصر ذاتها، وملكا عليها.
علي هذا المنوال، تجري سنن التغيير، في هذا الكون بين ظاهر وباطن، لتبدل الناس، من حال الي حال.
فلا يغرن قوم تسموا بالاسلام، ورفعوه شعارا، ثم توشحوه دثارا، بما ليد القدرة من سلطان علي كل شيء، وإن لم تره عين.
ولعل الواجب المباشر، علي هؤلاء القوم، في اللحظة الحاضرة، ادراك حقيقة ان عقارب الزمن لا يمكن أن ترجع الي الوراء، اشباعا لشهوة محروم بفقد، وأن عجلة التاريخ لن تمضي الي الامام وفق هوي نفس، أو لشح مطاع، ومزاج فاسد.
فالسودان رغم بؤس حاله الماثل، وهوانه لدي بعض الناس، هو بلد ظل محل “حفظ وصون”، محاط بلطف عميم، ومحفوف بعناية لا تخفي، عناية ستخرجه كالشعرة من عجين ما خلط هؤلاء تخليطا، بمثلما قد خرج يوسف من غيابت الجب، بيد من لم يروا فيه اكثر من كونه سلعة قابلة للبيع.
بل اتصور ان السودان الذي تجمر الي الآن بما يكفي لكي يلمع كنجم ساطع، قد بات قاب قوسين أو أدني، من بوابة النفق، التي سيخرج منها كما خرج يوسف أيضا مرفوع الهامة، موفور الكرامة، من قيد واغلال سجن ظالم، بتهمة مفتراة، الي فضاء حرية، وبراءة سيرة، اعقبها ملك، وسبق، وعلو مكانة.
فالعالم الذي يتشكل الآن، بين ايدينا، وتحت ناظرينا، سيكون له في السودان حاجة كبيرة، وأن هذه الحاجة نفسها، هي التي بسبيلها ستخرج البلاد من هذا الواقع المرير، الذي صنعه دهاة ماكرين، خاب فألهم ومكرهم، كما قد خاب مكر اخوة يوسف من قبل.
لام.. ألف
السودان هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب،
ولا يهولن أحداً هذا القول. لكون السودان جاهلاً، خاملاً، صغيراً، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع، ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء.
محمود محمد طه
حالتي
اشهد الا انتماء الآن
إلا أنني في الآن لا