بعد مرور أكثر من تسعة أشهر على الانقلاب الذي قام به قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وتفاقم الأزمة السياسية في البلاد بشكل غير مسبوق ما يزال العسكر يتشبثون بالسلطة عبر العديد من المناورات التي تلوح إحداها في الأفق الآن بالحديث عن تعيين رئيس وزراء وحكومة انتقالية بشكل أحادي من قبل البرهان في الأيام القليلة القادمة.
وتأتي المناورة الجديدة بعد إعلان البرهان في الرابع من يوليو الماضي عن قرار الجيش القاضي بانسحاب العسكر من السياسة، وهو القرار الذي تضمن احتفاظ القوات المسلحة بصلاحيات كبيرة منها السيطرة على جهازي الأمن والشرطة فضلاً عن السلطات السيادية والتحكم في قضايا الأمن والدفاع المتعلقة بالسياسة الخارجية، وقد قوبل القرار برفض واسع من قبل قوى الثورة.
ظل القادة العسكريون منذ قيامهم بالانقلاب في 25 أكتوبر الماضي يراهنون على عامل الوقت لتحقيق هدفين رئيسيين، أولهما إضعاف حركة الجماهير والمقاومة في الشارع والآخر تبديل موقف المجتمع الدولي الرافض للانقلاب بحسبان أن الأخير، ومع مرور الزمن، سيُرجِّح خيار مساندة الاستقرار السياسي والأمني في البلاد بدلاً عن مساندة التحول الديمقراطي.
لقد منحت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي العسكر فرصة للتأكيد على إمكانية حدوث تغيير في موقف المجتمع الدولي (خصوصا الترويكا والإتحاد الأوروبي وبريطانيا) بحيث لن يكون السودان في جدول أولويات تلك الدول التي باتت تركز على قضايا داخلية مرتبطة بتأمين الطاقة والغذاء وأخرى متعلقة بتحجيم النفوذ الروسي في العديد من مناطق العالم ومن بينها أفريقيا.
وفي هذا الإطار يطرح قادة الجيش أنفسهم كحليف محتمل بيده العديد من كروت الضغط التي ترغب فيها الدول الغربية ومن بينها الوقوف في وجه المد الروسي والصيني في القارة وخصوصاً في منطقة البحر الأحمر التي اتضحت أهميتها الإستراتيجية للأحلاف الإقليمية والدولية الآخذة في التشكل كما تبدى في قمة جدة الأخيرة.
وعلى الصعيد الداخلي، يراهن العسكر على عدم قدرة قوى الثورة على تجميع صفوفها في جبهة واحدة تقود العمل المقاوم للانقلاب وتمثل تطلعات الشارع العريض في إبعاد العسكر عن السياسة واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي، وفي هذا الإطار تعمل الأجهزة العسكرية بكل قواها المادية والأمنية والإعلامية لمنع التقارب بين القوى الثورية وإحداث الوقيعة بينها.
ويبدو جلياً أن الجيش يلعب على وتر كسب الوقت حتى يُصاب الشارع الثوري بالضعف جراء تطاول الزمن ومن ثم يسهُل عليهم اتخاذ الخطوة التالية بتعيين رئيس وزراء وحكومة، ولكن من الواضح أن هدف العسكر هذا على الأقل لم يتحقق حتى الآن والدليل على ذلك هو المواكب الضخمة التي خرجت في 30 يونيو وما أصاب العاصمة من شلل تام جراء الإغلاق الكامل للجسور وقطع الاتصالات وخدمة الإنترنت.
هذا الأمر لا يعفي كافة قوى الثورة من مسؤولية العمل وبسرعة لقيام المركز الموحد لقيادة الثورة وهو الأمر الذي سيضمن تماسك الصف واستمرار المقاومة بوصفها العامل المرَّجِح لميزان القوى بين الطرفين، وإذا تعذر ذلك فلا مناص من التنسيق المشترك القائم على اتفاق الحد الأدنى للعمل على إنهاء الانقلاب.
ويُمهِّد العسكريون لخطوتهم التالية عبر استمرار التحالف مع القوى المدنية والحركات المسلحة التي ساندت انقلاب الجيش وفي مقدمتها الحركة الإسلامية وواجهته السياسية الممثلة في حزب المؤتمر الوطني المحلول فضلا عن الرموز الطائفية وبعض سماسرة السياسة الذين عملوا في خدمة الرئيس المخلوع عمر البشير.
وقد تم التعبير عن وجهة هذا التحالف في التحركات التي ابتدعها عضو الحركة الإسلامية الشيخ، الطيب الجد، الذي قام بتوجيه من قيادة الحزب المحلول بطرح مبادرة لحل الأزمة السياسية أطلق عليها مسمى “نداء أهل السودان” وهي مبادرة يشكل عمودها الفقري النظام البائد وحلفائه وقد تمت مباركتها من قبل قائد الجيش.
ويسعى العسكريون بمشاركة القوى الانقلابية المساندة لهم والنظام البائد وحلفاؤه إلى تسمية رئيس وزراء وتعيين حكومة في الأيام القادمة وذلك لقطع الطريق أمام المقاومة الثورية وفي وجه أية عملية سياسية تهدف لإنهاء الانقلاب واستعادة المسار المدني، وهي الخطوة التي تؤكدها العديد من التسريبات والتحركات على الساحة السياسية.
فبالإضافة إلى مبادرة الطيب الجد، أوعز العسكر لوكلائهم في التحالف الذي يُعرف في السودان باسم “جماعة الموز” للمضي قدماً في إعداد إعلان دستوري بمشاركة قوى النظام البائد والإسراع بتقديمه للعسكر لاعتماده باعتبار أنه يعكس الوفاق الوطني الذي ظل يطلبه قائد الجيش تمهيدا للإعلان عن الحكومة الجديدة.
ولا شك أن هذا المعسكر الانقلابي سيقوم في الفترة القريبة القادمة بتعزيز آلة القمع وتشديد القبضة الأمنية وإطلاق حملات الاعتقالات بصورة واسعة تمهيداً للخطوة وبحيث يخفت صوت الشارع الثوري المقاوم.
هذا الأمر يتطلب من كافة قوى الثورة الإسراع في توحيد صفوفها وتصعيد العمل الجماهيري بمختلف أشكاله (مواكب، اعتصامات، إضرابات.. إلخ)، من أجل مواجهة مخطط العسكر وحلفاءهم الذين ما زالت تساورهم أحلام الرجوع بالتاريخ للوراء لاستعادة الحكم الشمولي.
لقد أدى الانقلاب العسكري الذي وقع في 25 أكتوبر 2021 إلى تفاقم أزمات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بشكل غير مسبوق، وهو الأمر الذي اعترف به قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، في تصريحاته الأخيرة لهيئة الإذاعة البريطانية والتي قال فيها بوضوح أن الأحوال قد ازدادت سوءا بعد الانقلاب وأنهم فشلوا في إدارة البلاد.
قد شهد السودان تغييرا كبيرا جراء اندلاع ثورة ديسمبر 2018 العظيمة، والتي قال فيها الشعب كلمته الأخيرة بوضوح وعبَّر عن رفضه التام للحكم الشمولي ومطالبته للجيش بالابتعاد عن التدخل في الشأن السياسي، موضحا أن شعار الثورة الأهم: (حرية.. سلام.. عدالة) لن يتحقق إلا في ظل الحكم المدني الديمقراطي الكامل، وبالتالي فإن أية محاولة للالتفاف على هذه المطالب سيكون مصيرها السقوط والفشل.