تؤكد كل المؤشرات وقوف الثورة السودانية في منتصف الطريق، لقد انقطع رأس النظام السابق، وسقطت بعض قياداته؛ إلا أن أذرع المنظومة الإسلامية لا تزال تتربص بالتغيير، و تشهر نصالها الحادة حول خاصرة الثوار الذين ما استطاعوا اقتحام القصر، ولا انحاز الجيش اليهم انحيازاً كاملاً مثلما حدث في أكتوبر ١٩٦٤، وأبريل ١٩٨٥.
قبل أن نمضي قدماً في طريق الثورة، يجب أن نتوقف عند بعض التعريفات المفاهيمية لمعنى الثورة، فالثورة فلسفياً تعني خروج عن وضع كان راهنا، إلى وضع جديد يحمل قيماً وتوجهات وسياسات ومبادئ مختلفة تماماً لما كان عليه الوضع القديم، فيمكن حدوث ثورة فنية أو ثقافية، أو اجتماعية بمعنى احداث تغيير جوهري وكامل في حقلٍ من حقول الفكر والثقافة والوعي والأنشطة الإنسانية، أما سياسياً فالثورة حراك شعبي سلمي، او عسكري عنيف ينتظم البلاد تمرداً وخروجاً على منظومة حكم بكل سياساتها وقيمها وقوانينها وتوجهاتها الفكرية، ثم احلالها بمنظومة مناقضة لها في كل نسقها ونظمها.
ومع أن الثورة تظهر بغتةً للحاكمين إلا أنها تظل تتخلق مدىً زمنياً قد يطول أو يقصر وفق معطيات كثيرة، وظروف ذاتية وموضوعية، فلذلك نقول إن الثورة فعل مستمر، وكل تحرك، أو حوار، أو تظاهرة لا تعدو سوى أن تكون حدثاً زمنياً في هذا الفعل المستمر، والذي يعتمد على ” دياليكتيك” التراكم ” الكمي” و ” الكيفي” وطفرة الثورات.
يفترض أن تكون النتيجة النهائية للفعل الثوري؛ خلق ” قطيعة معرفية مع القديم” أي الانتقال من وضع ثقافي/ سياسي/ اقتصادي/ اجتماعي إلى وضع مغاير له تماما، دون وجود أي خيط يربط بين القديم والجديد، ويمكن الإشارة هنا الى ثورات حدثت في العالم، وكرست لأوضاع مختلفة عن السابق، مثل ” الثورة الشيوعية”، والتي قطعت الوصل تماماً مع النظام الملكي والاقطاعي في روسيا ، وأسست نظاماً شيوعياً على عكس سابقه، و هذا ما أحدثته أيضاً ” الثورة الصينية” و” الثورة المهدية” و”الثورة الكوبية” و” ثورة عبد الناصر في مصر، و “الثورة الأريترية” و” الثورة الإيرانية” والثورات الملونة في شرق أوروبا.
هذه ثورات صنعت تحولات كبرى في تاريخ البشرية، وجميعها بنت قطيعة معرفية كاملة مع ما سبقها من نظم، وكان لكل ثورة وسائلها المختلفة، إلا أنها في غالب الأحيان اعتمدت على قوى ” ثورية مسلحة” هزمت المنظومة العسكرية السابقة.
وعلمتنا تجارب الثورات عبر التاريخ أن أهداف الثورة النهائية يظل رهيناً بخيارين؛ فأما أن يمتلك الثوار ودعاة التغيير قوات ثورية مسلحة تعينهم على تحطيم القوى الحاكمة القديمة ومؤسساتها واحلالها بقوى جديدة، أو عن طريق انحياز كامل من قوات السلطة العسكرية والأمنية للتغيير الجديد، والمؤكد أنَّ قوى ” الرومانسية الثورية” لا تمتلك قوات مسلحة تساعدها على اقتحام القيادة العامة، في وقت ظلت فيه قوات الكفاح المسلح تقاتل في الأطراف، بلا مقدرات أو خطط واستراتيجيات عسكرية هدفها دك حصون المركز، مثلما فعلت حركة العدل والمساواة بقيادة الراحل خليل إبراهيم، في مايو ٢٠٠٨.
إن العمل المسلح ساهم في اضعاف شوكة النظام، وهو ما يتضح في توجيه صرف نسبة ٧٠٪ من الموازنة العامة الى بندي الدفاع والأمن، إلا أنَّ عمليات الحركات المسلحة ظلت بعيداً عن العمق، والمناطق الحيوية، تنتهي بكمائن وعمليات صغيرة ومناوشات في أقصى الأطراف، ولكن حتى في تلك الأطراف فقد انحسر العمل المسلح منذ سنوات!
وجدت الثورة السودانية نفسها تقف أمام تحديات جسام، و مهددات جدية بعد أن قطعت منتصف الطريق؛ فلم تصل إلى مآل الثورات الراديكالية التي أشرنا إليها وما أحدثته من تغييرات جذرية وعميقة وتحولات كبيرة في مجتمعاتها المعنية، كما لم تجد الثورة السودانية انحيازاً عسكرياً كاملاً ينهي تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة والحكم، ويضعها أمام مسؤوليتها التاريخية في حماية الشعب والأرض والدستور.
ويمكن ربط هذه المهددات “إجرائياً” فقط بعوامل مؤسسية، وأخرى بنيوية، وثالثة سياقية، مرتبطة بالظروف الزمانية والمكانية، مع تداخل هذه العوامل وتقاطعها فيما بينها.
العوامل الهيكلية: –
1- مجلسا السيادة والوزراء.
شكَّل السودانيون مؤسسات للحكم بناءً على توازنات القوى الموجودة على المسرح السياسي، فتشكلت سلطة ثلاثية الأضلاع تمثلت في حكومة التنفيذية، مجلس السيادي ومجلس شركاء الحكم، الذي نبت بعد اتفاق سلام جوبا، عوضاً عن تشكيل مجلس تشريعي!
منحت المعادلة الفريدة وجوداً للمكون العسكري في مرحلة الانتقال، ومع أن مشاركة العسكر في جانبها الإيجابي، يفترض أن تمنح الحكم المدني حمايةً من تحركات محتملة من أعداء الثورة ومليشيات المنظومة الإسلامية، إلا أن بروز نزعات لدى بعض قادة العسكر يظل أمراً محتملاً، ويشير مراقبون إلى تمدد المجلس السيادي داخل فراغات خلقها بطء أداء الجهاز التنفيذي في عدة ملفات، و يمكن أن يفتح هذا الوضع الأبواب نظرياُ أمام عواصف الخلافات وتسابق النفوذ وتنامي الطموحات. ويشير المعارضون لمعادلة الحكم الانتقالي في السودان إلى دور المكوٍّن العسكري في ملف السلام في محادثات جوبا، وفي قضية تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
إن العلاقة بين المكونين المدني والعسكري تظل علاقة “فريدة” خلقتها التوازنات والتعامل الواقعي مع تطورات الأحداث، فلم ينجح المكون المدني في اكمال الثورة لعدم امتلاك قوى ثورية تغير من كل المعادلة، فيما فشلت محاولات المكون العسكري مع بدايات التغيير في الانفراد بالحكم، وتنفيذ ما جاء في البيان الأول للفريق ابنعوف، الذي لم يستمر أكثر من ٤٨ ساعةً، وأدرك المتظاهرون أن وزير دفاع البشير، ورئيس لجنته الأمنية غير مؤهل لقيادة التغيير، وأن وجوده يمثل تغييراً لمنقار النسر، وعودة النظام القديم في مظهر جديد، وتكررت المحاولة بصورة شرسة بمغامرة فض اعتصام القيادة العامة التي راكمت من المشاعر السلبية تجاه المؤسسات العسكرية.
٢ – مجلس شركاء الحكم
جاء قرار تشكيل ” مجلس شركاء الحكم الانتقالي، نتيجة لاتفاق سلام جوبا مع الجبهة الثورية، وضم المجلس في تشكيله أعضاء المجلس السيادي، رئيس الوزراء، ورؤساء القوى السياسية المشاركة في السلطة، ووجد هذا التشكيل رفضاً من قوى سياسية غير مشاركة في السلطة، وتشكك كثيرون في هوية المجلس الجديد الذي اعتبروه خصماً على المجلس التشريعي، وعلى السلطة التنفيذية، وبرر أصحاب القرار تشكيل المجلس بأنه ” مجلس حكماء بغرض فض اشتباكات الحكم” إلا أن الحقيقة الماثلة أن المجلس لا يزال يأخذ دوراً كبيراً ظهر خلال فترة تشكيل الحكومة الجديدة.
إن تشكيل مجلس الشركاء عزز مخاوف المعارضين من ” تضييق الواسع، وتقليص قاعدة الحكم بحصر كل مصير السودان في نخب محدودة، حيث يضم قادة الحكم التنفيذي والسيادي وقيادات الحرية والتغيير، و عبر كثيرون عن امتعاضهم من مسألة حصر مهام الحكم الانتقالي في مجموعة صغيرة تتحرك سياسياً وتشريعياً وتنفيذياً وسياسياً، في وقت تحتاج فيه فترة الانتقال إلى توسيع قاعدة المشاركة وتعدد الأصوات.
٣ – الأجهزة الأمنية والشرطية: –
تباينت المواقف السياسية من التعامل مع جهاز الأمن والمخابرات وتعددت الآراء حول مصير هذا الجهاز وارثه المهلك، فالبعض يريد حل جهاز الأمن والمخابرات نهائياً، في وقت يريد آخرون إعادة هيكلة الجهاز واجراء إصلاحات مؤسسية وهيكلية لتجعله جهازاً مهنياً احترافياً بعيداً عن تاريخه السيئ وسلوكه المنبوذ، إلا أن الواقع يشير إلى الإبقاء على الجهاز وتغيير اسمه الى ” المخابرات” وسط شكوك حول تواطؤه مع عناصر النظام السابق، ومشاركتهم في عدة محاولات لإثارة الفوضى ، لكن قادة الجهاز يبررون مواقفهم من عدم التدخل لوقف الفوضى بسبب فقدانهم صلاحيات الاعتقال والتوقيف والاقتحام والمداهمة.
وينطبق القول كذلك على وضع الشرطة التي صارت هي ذاتها تشكو من ضبابية وضعها مع وجود سهام مصوبة نحوها بسبب ممارسات الشرطة خلال فترة الحكم الشمولي، وقد برزت مواقف عديدة شككت في أداء الشرطة مثل تصريحات المدير السابق لشرطة ولاية الخرطوم، داعمة لعودة قانون النظام العام، وعدم المهنية في قضية مقتل صبية صغيرة السن، وفي أحداث شهدتها ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر وبعض مناطق دارفور، واضطرت السلطات في كثير من الأحيان الاستعانة بوحدات من قوات الدعم السريع للتدخل في نزاعات قبلية، وهي أدوار من المفترض أن تؤديها قوات الشرطة.
لم تتمكن الحكومة وأجهزتها حتى الآن من بدء عملية اصلاح مؤسسات الأمن والشرطة وإعادة هيكلتهما؛ وتغيير عقيدة المؤسستين الى عقيدة وطنية، هنية، احترافية تحترم حقوق الإنسان وتعمل على انفاذ القانون وحماية الدولة ومؤسساتها ونظامها الديموقراطي.
٤–الدولة المختطفة:
ظهر مفهوم الدولة هلامياً وحالماً في الفلسفة الإغريقية، “يوتوبيا أفلاطون، إلا أن أوروبا شهدت طفرةً نوعيةً؛ في بنية العقل الإنساني، لتدخل عصراً جديدا، رفدت بعده الإنسانية بمعارف فكرية وفلسفية حول العقد الاجتماعي، و الدولة، وماهيتها وظيفياً ومفاهيمياً.
يرى الدكتور محمد عابد الجابري، أن ” النظريات الأوروبية حول الديمقراطية وحول المسألة الاجتماعية وحول العلاقة بينهما كانت نظريات تؤطِّرها وضعية تاريخية معينة قوامها جملة أسس وأركان من أهمها ما يلى: وجود الدولة الوطنية القومية، وجود بنى صناعية حديثة متنامية، وجود طبقة برجوازية متمسكة بالقيم اللبرالية، وجود طبقة عاملة يتزايد عدد أفرادها يوماً بعد يوم، وجود أحزاب تؤطِّر الأفراد وتتقاسم النخب “.
و في السودان بدأت الدولة الحديثة في التكوَّن في القرن التاسع عشر بعد دخول الأتراك، بعد أن كان السودان عبارة عن مملك قبلية صغيرة، كالسلطنة الزرقاء، سلطنة الفور، والمسبعات، وورثت الدولة المهدية ذات الكيان حتى عام ١٨٩٨، ثم جاء البريطانيون وتوسعوا في بناء الدولة بحدود ضمت دارفور، ولما خرج الاستعمار خلف وراءه دولة هشة، وهو ما عبر عنه بروفيسور تيسير محمد أحمد، في ورقة بعنوان ” السودان.. الاستقلال ومأزق المشروع الوطني” ” ويرى أن الاستقلال يعني التحرر الكامل من كافة العلاقات، والبنى، والهياكل، و المفاهيم التي خلفها المستعمر، واستبدالها بأخرى تأطر لمشروع وطني كامل.
و يقول الدكتور حيدر إبراهيم ” لم يهتم السودانيون بعد الاستقلال ببناء دولتهم الوطنية، والتي كان لا بد أن تكون دولة وطنية، ديمقراطية، تعددية الثقافات، وعلمانية أو مدنية، ولكن السودان خضع لعملية طويلة ومركَّبة لتوظيف الدين سياسياً، ابتدرته القوى الطائفية التقليدية، وأكملته قوى جديدة محافظة” ويرى إبراهيم، أن في ” هذا التوجه وأد لفكرة الدولة الوطنية الموحدة “.
وحين حكم الإسلاميون السودان عنوةً بقوة السلاح، وتضليلاً بالشعارات الكذوبة، لم يجتهدوا في عملية بناء دولة وطنية، وكلما فعلوه هو ” اختطاف ” هذا الكيان الهش، وأرى أن الحديث عن ” دولة عميقة” مجرد استلاف كسول لهذا المصطلح من تجارب أخرى، لأنه ليست هناك دولة بقدر ما توجد أجهزة توظيف وسيطرة، جبايات بلا رعاية، وسبق أن قلت في مقال سابق أن مراكز قوى داخل دولة الانقاذ تشكلت بعد اعلان سياسة التمكين، وتبني أطروحات اقتصادية متوحشة خلقت طبقة طفيلية جديدة، شكلت شبكة مصالح أعمدتها الدين، القبيلة، والجهة، فصنعت مركزاً تتصارع نخبه فيما بينها وتتحالف ضد الهامش السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وما يميز الشبكة أنها مجموعة أصحاب أموال نشأت من ريع الدولة مباشرةً ، أو عبر أنشطة السمسرة، والتجارة والاعفاءات الجمركية، وعمولات الشركات الأجنبية للحصول على امتيازات أو أراضٍ بلا مقابل للمجتمع، فتخلق دولة مثل جمهوريات الموز في أمريكا الجنوبية، وشملت الأنشطة غسيل الأموال وتجارة السلاح والمخدرات.
كان من البديهي أن تكون علاقة هذه الطبقة الجديدة مع الدولة علاقة تزاوج بني على مصالح مشتركة، حماية مقابل دفاع، امتيازات مقابل ولاء، لذلك تسعى مثل هذه الشبكات الوقوف ضد أي تغيير سياسي، أو حتى تعديل في السياسات الاقتصادية العامة يحد من تمددها ويخصم من امتيازاتها، إلا أن هذه الشبكة وعلى خطورتها لم تبني دولةً، بعد أن باعت الحكومة معظم المؤسسات العامة، ودمرت المشاريع الإنتاجية، وأسست قطاعاُ خاصاُ بني على اقتصاد الخدمات، وخلق واقعاُ متفسخاً عماده التباهي بالمظاهر وتحركه علاقات المصالح وترتبط بخيط واهن من الولاء.
أما بقية خلق الله من السودانيين؛ فقرر النظام أعادة صوغهم، واجبارهم على البقاء قسرياً على هامش شبكة المصالح، لتصبح غالبية السودانيين ترزح في أغلال فقرٍ ويحيطها النظام في بممارسات ذلٍ،. وهدف مشروع النظام ( الحضاري) إلى تحويل شرائح كبيرة إلى ” تروس” في ماكينة الإنقاذ.
وبعد سقوط البشير ورثت الحكومة الانتقالية خدمة مدنية مترهلة وكسولة، ووقفت حجر عثرة في انفاذ السياسات الجديدة، وتممظهر ذلك في الفشل في إدارة توزيع الوقود وانهاء ظاهرة الصفوف المزمنة، وفي هيئات نظافة المدن، تنفيذ سياسات توحيد سعر الصرف واستقبال تحويلات السودانيين في الخارج، مقابلة متطلبات المواسم الزراعية.
لم تهتم القوى السياسية بإصلاح الخدمة المدنية حتى الآن وتعيين كوادر جديدة وفتح فرص عمل أمام مئات الآلاف من الشباب والشباب.
لا تزال القوى السياسية السودانية تهمل حقن الخدمة المدنية بعناصر وطنية مؤهلة، وتتركها مترهلة ومعيقة لإدارة شئون الناس، وتقديم الخدمات اليهم، فالقوى السياسية ظلت عاجزة عن سبر أغوار أزمة الإدارة لأنها تظن أن التغيير هو التغيير السياسي فاكتفت بمناصب عليا وتناست التغيير الجذري والتحتي.