في إحدى حوانيت العاصمة.. رأيت صبياً يجادل شيخاً سبعيني.. يجادله وكأنه يستمتع بهزيمته أمام الملأ. يمعن في إثبات صحة حديثه ومنطق كلامه. والشيخ يهيج .. لكنه هياج لايسمع. يتلعثم ولكن وهن العظم وكبر السن والأنفاس المتقطعة لا تعينه على المجادلة ومقارعة الحجة بالحجة. وإسكات صوت الصبي الذي يعلو تارة بعد تارة .. يصمت الشيخ برهة يتحدث ثم يطول صمته وسرحانه.. أحسست حينها ربما هزمت دواخله أو فطر قلبه فصار كطائر الهوى الذي مال جناحه. لماذا أتذكر رائعة كابلي هذه كلما رأيتها في أتراح وأفراح أهلنا.. لقد كانت قصتها مأساة الحلة عندما أرسل فارس أحلامها في صندوق من أرض الفرنجة بعد رحلة طويلة مع المرض.. لا زال جمالها خلاب وعينيها العسلية تزدادان روعة وقد إرتسم فوقهما حاجبين بدى كل واحد منهما كهلال عانق سحب البطانة الداكنة.
عرفت بعد حين أن الصبي إنما هو آخر أولاد الشيخ أو آخر العنقود الذي عاش منعماً مدلعاً في كنف الأب الشيخ الحنون. لكن قساوة القلب وعتوه وعزته بالإثم أنسته بر الوالدين وكأنه لم يعرف بعد أن أف تعد عقوقاً…
لا أدري كيف صار الأب يخشى الإبن وكأنه مكتوب عليه بعد أن اشتعل الرأس شيباً أن يوقر إبنه.. مكتوب لك يا الدهب المجمر تحترق بالنار دوام..!
لماذا تتعالى الأصوات على الآباء.. بل لماذا تتجاسر على أب الوطن القوات المسلحة.. فكلما إزددنا (مضايرة) إزدادوا صياحاً.. كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها من أين خرج هؤلاء..؟
لماذا أصبح الحديث عن الجيش وبشكل غير مشروع في وضح النهار على الهواء مباشرة وفي قارعة الطريق وفي المنابر الخاصة والعامة..؟ ماذا دهى القوم ..؟ أيريدوننا أن نقعد في السهلة ..؟ بعد أن تفكك قواتنا المسلحة وتحل صامولة صامولة .. أيريدون أن يخلو لهم الجو فيدوسوننا دوساً أم ماذا..!؟ في التسعينات أحيل أحد الضباط للمعاش وهو في حالة هجوم في أحد الأحراش سمعته يقول إن سبب الإحالة أنه إتهم بأنه بعثي وسكرجي. رأيت أن غضبه من التهم أكثر من غضبه من الإحالة .. ما أقسى التصنيفات وما أقبح السوس الذي ينخر عظم هذا المرق المتين، كان العسكريون يتألمون من إلصاق التهم والتسيس بهدف تصفية الحسابات..
الحق إن الحركة الإسلامية جاءت بفكرة الجيش الرسالي ودفعت بكوادر داخل القوات المسلحة وظنت أنها ستحول المؤسسة كلها من أعلى إلى أسفل إلى إسلاميين، ورغم وجود التنظيم الذي جاء كنتاج طبيعي بعد مقولة إذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً. نسى المنظرون حينها فقه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولا يزالون مختلفين، فسنة الله باقية وإن حاول جور الانقلابات تبديلها، باقية بجمال التنوع والتباين والثقافة والدماء والتلاحم والتلاقح لتظل اللوحة السودانية الأصيلة. فالسؤال هل نجح المؤتمر الوطني أو الحركة الإسلامية في تحويل الجيش كله إلى حزب يتبع له..؟ هناك أخطاء جسيمة ارتكبت وأثرت سلباً في هيبة ومكانة ونظام الجيش الدقيق فهل تحول كل ضباطه وأفراده إلى كيزان..؟ إذا كانت الإجابة نعم فلماذا وقعت كثير من المحاولات الإنقلابية في العهد الماضي.. لماذا إنحاز الجنرالات المحسوبون على التنظيم إلى البشير عندما وقعت مفاصلة رمضان الشهيرة هل لأن البشير أكثر فقها وفكراً من الترابي ماهو الرباط الساحر الذي جذب العسكريين للإنحياز للبشير ..؟ كم عدد الأفراد من الضباط والصف الذين فصلوا وأعدموا وشردوا لمجرد مناهضتهم لسياسات النظام داخل القوات المسلحة..؟ ثم إن الثورة التي اقتلعت النظام السابق في ديسمبر كانت بدايتها وشرارتها منذ اليوم الأول لسطو الإنقاذ على السلطة.. هل كان العسكريون بعيدين عن هذا الحراك منذ البداية ألم يتأثر الجندي بالظلم والغلاء وتمييز عناصر وكوادر الحزب المحلول عليه..؟ إن الترويج لقصة أن الجيش ماجيش السودان الجيش جيش الكيزان لابد أن تتوقف بقرار تجمع عليه كل قوى الثورة. نعم قرار حاسم. لأن من أخطر مايؤذي الجيوش هو الضرر المعنوي الذي يخفض الروح المعنوية للفرد المقاتل..
إن المسائل المتعلقة بهيكلة إعادة تنظيم القوات المسلحة وتحصينها من أي اختراق سياسي حزبي أو جهوي كلها من أولى أولويات القيادة العامة منذ اللحظة الأولى للثورة.. ويأتي إنطلاقاً من المسؤولية التاريخية والموقف الأخلاقي الحاسم في التجاوب مع أدبيات الثورة، فالقوات المسلحة ليست جزيرة معزولة ولا جسماً غريباً على المجتمع السوداني.
نحتاج إلى النأي بجيشنا عن المزايدات السياسية والشبهات وإطلاق القول على عواهنه.
من حق الشعب أن يطمئن على جيشه ويساهم برأيه وفكره في تطويره والمحافظة على قوميته. لكن ذلك أفضل أن يتم بعيداً عن المنابر العامة. وماينبغي مناقشة المسائل الحساسة بصورة مضرة، فللقوات المسلحة أكاديميات ومعاهد وكليات وقادة وخبراء وإستراتيجيون يناقشون كل هذه الأمور في مواعينها .. إن القضايا المتعلقة بخصوصية القوات المسلحة وأسرارها وتماسكها وكل محظوراتها مكانها القوات المسلحة ومكانها النظم واللوائح والقوانين التي تحكم عملها وليس أي مكان آخر ..
أرجو أن لا ينتصر الصبي على الأب الوقور.. فالخاسر الصبي وإن بدا منتصراً.. إذا استمرت الحملة الطائشة بصورتها المراهقة هذه أخشى أن يأتي علينا زمان نقول فيه للجيش كر فيقول أنا لا أحسن الكر وإنما الحليب والصر.. ثم يقول: (أنا دولة عميقة دعوا الدولة الضحلة الحديثة تقاتل) ..!!
داء الكوليرا يهدد قرى البزعة شمال شرق ام روابة ووفاة طفلين خلال (24) ساعة
متابعة : محمد أحمد الدويخ انعدام الأدوية والرعاية الطبية وأتيام التوعية أبرز النواقص للحد من انتشار المرض.. الأطفال وكبار...
Read more