تقارير

الصدمات النفسية .. عقول السودانيين في مرمى نيران الحرب

الخرطوم- طيبة سر الله

 

 

 

    ثلاثة رجال وامرأة في حالة ذهول تام، يجلسون أمام مكتب متواضع في عيادة خاصة بأحد أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، ينتظرون دورهم لمقابلة الطبيب ياسر أحمد المختص في الطب النفسي.
إبراهيم عبدالله (53 عاماً)، أنتقل حديثاً من حي صالحة جنوب أم درمان الذي أصبح مسرحاً للعمليات الحربية بين الجيش والدعم السريع إلى منطقة كرري أقصى شمال أم ردمان البعيدة نسبيا عن مرمى أسلحة المتقاتلين.
تقول والدة إبراهيم، وكان يعمل قبل الحرب صانعاً للأحذية بسوق ليبيا، أشهر الأسواق بالسودان، إن صحة إبنها النفسية كانت جيدة قبل اندلاع القتال في 14 أبريل/نيسان بين الجيش والدعم السريع فترك عمله وأستقر نهائياً في المنزل، لكن المعارك العسكرية أقتربت منهم ما دفعهم للإنتقال إلى شمال أم درمان، وبعد ثلاثة أيام من استقرارهم في السكن الجديد، تدهور مزاجه سريعاً وأصبح لا يتحدث ولا ينام ويرفض تناول الطعام.
شخص الطبيب ياسر حالة إبراهيم بتفاعلات ما بعد الصدمة، وطلب من والدته عرضه عليه مجدداً بعد عشرة أيام.
في ذلك اليوم استقبل ياسر في عيادته 17 مريضاً، منهم مريض واحد يعاني من الإكتئاب، وأربعة بالخوف، وثلاثة بالقلق، وواحد باضطرابات ما بعد النوم وثمانية اضطراب ما بعد الصدمة.
ويبدو أن مرضى الطبيب ياسر أكثر حظاً من غيرهم، لأنهم وجدوا طبيباً نفسياَ، يبذل قصارى جهده ليعيد إليهم عقولهم التي صرعتها لوعة الحرب، في وقت أغلقت فيه جميع المستشفيات والمراكز الصحية في أم درمان أبوابها، ولم يتبقى سوى مستشفى واحدة تعمل بجهد المتطوعين والخيرين، تستقبل جرحى العمليات الحربية المدنين والعسكرين على حدا سواء، ولا يوجد بها قسم للأمراض النفسية والعقلية.
وسبق أن أعلن وزير الصحة السوداني هيثم إبراهيم عن توقف 100 مستشفى من جملة 130 مستشفى كانت تعمل في الخرطوم قبل اندلاع الحرب، بما فيها مستشفى التيجاني الماحي، وهى المستشفى المرجعي الوحيد في السودان للطب النفسي، وأغلق كبار الأطباء النفسانين عياداتهم في الخرطوم وأم درمان بسبب المخاطر الأمنية، وصعوبة التنقل وشح الأدوية وغادروا إلى خارج السودان.
وبسبب توقف المستشفيات وصعوبة الوصول إلى العيادات القليلة التي تعمل، بجانب تدهور الحالة المادية لأكثر المواطنين، الذين لا زالوا محاصرين في الخرطوم، لجأ بعض أهل المرضى إلى معالجين روحانين.
صديق (22عاماً)، سقطت قذيفة ساروخية على منزلهم بحي بيت المال بأم درمان قتل على إثرها شقيقه، وفور مشاهدته للأشلاء، فقد وعيه وصار غير مدرك لما يدور من حوله.
وتروي شقيقة عمر لـ”ترياق نيوز” ما جرى بعد ذلك، وتقول أن أسرتها أستدعت معالجاً روحانياً لمعالجة شقيقها، وقد أصبح المعالج يعقد له جلسات قراءة قرآن ثلاثة مرات في الأسبوع مقابل خمسة ألف جنيه.
ويعقد المعالج النفسي جلسات مماثلة لستة عشر شاب من أسرة واحدة كانت تسكن حي العرب بأم درمان القديمة، لكنهم فروا أمام ضراوة المعارك العسكرية التي حدثت بالمنطقة، ويقول والد أحد الشباب الذين يتلتقوا العلاج على يد المعالج الروحاني أن حالتهم الصحية تدهورت عقب انتشار الدعم السريع في المنطقة التي أصبحت في مرمى نيران مدفعية الجيش الذي كثف هجومه على خصمه. ويخبر والد الشاب المريض أن القصف المتبادل بين الطرفين تسبب في قتل عدد من المواطنين وهدم المنازل مما أثر نفسياً على المواطنين الذين كانوا يفضلون البقاء في منازلهم، قبل نزوحهم إلى مناطق غير بعيدة في أم درمان.
وتقول منظمة أطباء بلا جدود أن إجبار الناس على ترك منازلهم يمثل مشكلة بالنسبة لأولئك الذين يعانون في الأساس من اضطرابات نفسية إذ إنهم يفقدون إمكانية الحصول على العلاج والرعاية الروتنية مما قد يؤدي إلى ظهور مشكلات غاية في الشدة.
ويضيف والد الشاب المريض لـ”ترياق” أن أسر المرضى فضلوا الذهاب بأبنائهم إلى المعالج الروحاني لعدم توفر العقاقير الطبية في الصيدليات، بجانب عجزهم عن تحمل التكلفة المالية الباهظة لمقابلة الطبيب النفسي.
وبحسب منظمة الصحة العالمية أن شخصا واحدا من كل خمسة أشخاص يصاب بمرض نفسي في أوقات الحروب، بينما يصاب شخص واحد بأمراض نفسية من مجموع 15 شخصا في ظرف غير الحرب.
وفي التقرير الذي نشرته في مايو/أيار2022، قالت منظمة الصحة العالمية أنها أجرت 129 دراسة في 39 بلداً شهد حروباً دموية، أثبت أن خُمس السكان، يعانون من أمراض نفسية بدرجات متفاوتة.
وتقول الطبيبة أمل التيجاني وهى اختصاصية نفسية ومدير سابق لمستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعقلية أن أكثر الأمراض التي يعاني منها السكان في مناطق الحروب شيوعاً هى اضطراب ما بعد الصدمة، والإكتئاب، والخوف، والقلق، واضطرابات ما بعد النوم.
وأخبرت أمل “ترياق” بأن مرضاً مثل اضطراب ما بعد الصدمة يحدث حينما يتعرض الشخص لتجربة قاسية تجعله قلقاً ومتوتراً وخائفاً وتضاعف الهلع في داخله، وقالت أن مشاهد العنف وأشلاء الموتى والجثث المنتشرة على الطرقات وفي المنازل، بجانب الغارات الجوية والقصف المدفعي وتدمير المنازل على رؤوس سكانها تسهم بشدة في تأزيم الوضع النفسي وتزيد عدد الإصابات باضراب ما بعد الصدمة والإكتئاب بمختلف درجاته والأسوء أن المرضى في الوقت الراهن رغم تزايد أعدادهم لا يجدون العلاج في الوقت المناسب.
وأسفرت الحرب الدائرة حالياً في السودان، عن انعدام أدوية الأمراض النفسية في الصيدليات التي نجت من عمليات السرقة التي طالت عشرات الصيدليات بالخرطوم. وقال تجمع الصيادلة بالسودان في بيان أن 216 صيدلية بولاية الخرطوم تمت سرقتها، منها 103 صيدلية في الخرطوم، و65 صيدلية في مدينة الخرطوم بحري، و48 صيدلية في أم درمان، وتوقع البيان أن يكون العدد الحقيقي للصيدليات التي تمت سرقتها أعلى بكثير مما ورد في البيان.
وذكر البيان أن 41 شركة و12 مصنع للأدوية جرى اتلافهما منذ بداية الحرب في منتصف أبريل الماضي.
وتقول مها عبيد، طبيبة صيدلانية أن السرقات أصبحت واحدة من المخاطر التي واجهتها الصيدليات ومخازن الدواء في السودان ما عرضت حياة المرضى لخطورة بالغة وتسببت في ندرة حادة في ادوية الامراض النفسية والعقلية.
ويكشف خبراء في الصحة النفسية أن الوضع الطبي لمرضى الأمراض العقلية يشهد تدهوراً مريعاً، ويقول الخبراء، أن السودان يعتبر من أكثر الدول التي شهدت حروباً داخلية وحالات نزوح ولجوء غير مسبوقة في تاريخه الحديث، لكن السلطات الرسمية، لم تكن تعطي الصحة النفسية أدنى إهتمام، وهو ما فاقم الوضع الإنساني بصورة كارثية أثناء الحرب الدائرة حالياً، وجعل من الصعوبة بمكان حصول المرضى النفسيين على رعاية لازمة في الوقت الراهن.
وبحسب دراسات سابقة، أن عدد المرضى النفسيين في ولاية الخرطوم وحدها حوالي (58،765) مريضا نفسياً، وتقول إحدى الدراسات أن الرقم المذكور هو أقل كثيرا من عدد المرضى الذين يذهبون إلى المعالجين الروحانيين الذين لازالوا يمارسون أنشطتهم بعيدة عن رقابة السلطات الحكومية.
ويقول الطبيب على بلدو استشاري الطب النفسي والعصبي وعلاج الإدمان أن الحرب أحدثت واقعاً نفسياً خطيراً على المواطن السوداني، وأن الكثير من المواطنين يكابدون تبعات الشعور بالتوتر والخوف وتفاعلات ما بعد الصدمة سواء كانوا عايشوا الحرب في الخرطوم أو المناطق الأخرى أو حتى سمعوا عنها، ويضيف بلدو لـ”ترياق” هناك حالات كثيرة تعاني من تفاعلات ما بعد الصدمة، أو التوهان والشرود بجانب الإكتئاب وفقدان القدرة على التعايش وفقدان التوزان.
ويذهب بلدو إلى القول أن هناك زيادة مستمرة في حالات الإضرابات النفسية عقب اندلاع الحرب في السودان، وانتكاسات عديدة وسط حالات الإدمان التي تم علاجها سابقاً بسبب إغلاق المستشفيات وتوقف الكوارد الطبية عن العمل.
وتقول الطبيبة مهجة محمد إبراهيم مدير مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعقلية، أن المستشفى الذي توقف عن تقديم الخدمة للمرضى عقب إندلاع الحرب كان يستقبل 110 مريض يومياً منهم 75 مريضا في العيادات المحولة، و35 مريضا في قسم طوارئ.

زر الذهاب إلى الأعلى