سيرة (ود المكي) الذي ترجل وصورته..عندما (يرث) الشعبُ شاعرٓ (أمتي) قبل أن (يرثيه)..!
الاتحاد العالمي للشعر يمنح الراحل جائزة (شاعر السودان) قبل يوم واحد من وفاته..وهذه اهم وصايا الراحل وتحذيراته من شهادة الكتب القديمة والرواة الخائنين..!
ترياق نيوز : محمد أحمد الدويخ
عندما أقدمت دار النشر جامعة الخرطوم على طباعة ديوان (امتي) للشاعر الفذ محمد المكي ابراهيم للمرة الثانية عام 1984.م على ترويسة :
(الوعي والحلم والغضب)
كان الإهداء يحمل اعظم المضامين في حق الشعب :
الى اصدقائي من الرجال والنساء الذين بما منحوا من الفرحة والألم أخرجوا من ظلمة نفسي واشراقها هذا الشعر .
الآن تفقد الامة السودانية شاعرها المجيد محمد المكي ابراهيم (1939 _2024.م)
بعد (85) عاماً من العطاء وسخاء الفكرة والنضال ونظم القوافي التي ألهبت حماس الشعب السوداني وظلت وحدو هتاف اكتوبر المجيد
والشاعر يتوقع ذاك (الشئ)
ويخشاه حتى بعد اكتمال الفكرة
وما جادت به مدرسة الغابة والصحراء :
شئٌ في قلبي كالأكلان..
كدبيب بعوض داخل طبلة أُذنٍ..كالرغبة في تحكيك قفا أو ذقن ..يتحرك ذاك الشئ على الأغوار ..بخطى التنميل خطى الإرهاص ..خطى الأحزان ..يا هذا الشئ العالق فوق الروح وفوق النبض ..بحق الخير وحب الله وعزات الإنسان :
لا تعجلني..
دعني أحيا..
هل كان الشاعر محمد المكي ابراهيم يعني حياته ام حياة القوافي والفكرة وهو يناجي هذا الشئ.. ؟
الخرطوم تصحو على
صهيل القوافي وقطار الغربه :
عندما وضع الطالب محمد المكي ابراهيم أول الشهادة السودانية مطلع الخمسينات قدمه بكلية الحقوق بجامعة الخرطوم قادماً من مدرسة خورطقت الثانوية باقليم كردفان كان حينها شاعرا مكتمل الأدوات لغة وبناء وجزالة ..ناضجا صقيل الجملة الشعرية مبدعا عميق الفكرة ساخرا ومخاتلاً يختزن ديوانه الابرز (أمتي)..وكان قطار الغرب يجسد المانفستو الكامل لشاعر تأتي له ان يصوغ مصطلحاً جمالياً مبتكراً
حيث كانت الاعوام
(1958 _1968.) تصدح فيها الخرطوم برصين القوافي وروعة الفكرة المبتكرة في مدرسة ود المكي الشعرية رائد مدرسة الغابة والصحراء :
نبهيني إذا نهض الزهر بين الخنادق والعشب قام..
واذا عاد سرب القطا واليمام..
نبهيني إذا صهل النهر ثانية ..
وتدفق يغرف من نفسه
ويساقي نداماه في غابة الطلح ..
أو غابة الخيزران..
نبهيني إذا أزهر السيسبان..
واذا ظلل الغيم سهب البطانة..
وألقى قذيفته السندسية في كردفان..نبهيني لانهض من رقدة الموت ..من شلل الخوف ..أنشر اجنحتي ذاهباً للبلاد التي تتراي لنا في المنام..
فهل تحققت أمنية الشاعر بعد رحيله وهو ينهض من رقدت الموت وشلل الخوف ذاهبا للبلاد التي تراءت له في المنام ..وشكلت تلك الاعوام من الستينات العصارة من التجربة الشعرية لدى ود المكي وظل الشعب يتنفس اكتوبرباته المجيدة
وقوافيه الباذخة على انغام الموسيقار الخالد محمد وردي وتجلياته الفنيه تعكسها لغة الجسد ونبض الروح تسمو :
باسمك الظافر ينمو..
فى ضمير الشعب ايماناً وبشرى.
وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحاً..
وبايدينا توهجت ضياءاً وسلاحاً ..
وتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبراً ..سندق الصخر حتى.. يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرة..ونرود المجد حتى..
يحفظ الدهر لنا اسماً وذكرى..
بأسمك الأخضر يا اكتوبر الأرض تغنى..
الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنى..
والكنوز انفتحت فى باطن الأرض تنادى…
بأسمك الشعب انتصر
حائط السجن انكسر
والقيود انسدلت..
جدلة عرس فى الأيادى..
كان أكتوبر فى أمتنا منذ الأزل..
كان خلف الصدر والأحزان يحي صامداً منتصراً..
حتى اذا الصبح أطل
أشعل التاريخ ناراً وأشتعل..
الشاعر (يقفو) بعد قطيعة
دامت (25) عاماً مع نظام الحركة الاسلامية بالسودان :
في العام 2016.م تشرفت باجراء أول مقابلة صحفية مع الشاعر محمد المكي ابراهيم لدى عودته السودان بعد قطيعة دامت (25) عاماً مع نظام الحركة الاسلامية برئاسة البشير ..حينها أدى لي باول تصريح بمطار الخرطوم رداً على سؤالي :
هل تدخل الاذاعة والتلفزيون بعد كل هذه القطيعة مع نظام البشير ؟
فاجابة ود المكي :
لن ادخل مؤسسة اعلامية تحرسها الدبابات في إشارة الدبابات المنصوبه على بوابة حوش الاذاعة قبالة النيل ..
غير انني تفاجأتُ باتصال هاتفي من الشاعر محمد المكي ابراهيم بعد يومين فقط من تلك المقابلة الصحفية يطلب مني احضار نسخة اعماله الشعرية بصدد اجراء مقابلة تلفزيونية لصالح فضائية النيل الأزرق وكان ذلك بصالة الخليل بأم درمان قبالة الطابية ..بعدها ذهب ود المكي في وفد حكومي رسمي برفقة والي شمال كردفان حينها أحمد هارون في حولة شملت مسقط راسه بمدينة الأبيض وواحة البشير ببارا وخور طفت التي شهدت نبوغه الاكاديمي والابداعي مطلع الخمسينات..الامر الذي جعل السؤال الأهم يطل برأسه :
هل غفر ود المكي كل تلك القطيعة وهو يصالح (هولاء) بل ويرافق بعضهم في حميمية ألجمت للمتابعين لتجربة الشاعر الثائر ..فهل كتب ود المكي رسالة الغفران بخط يده مسامحا الاسلامويين بعد كل تلك القطيعة ..أو كما قال عنه صديقه الباحث الكردفاني الفذ محمد عثمان الحلاج الذي يؤمن أن الشاعر (ود المكي) من المعادن التي لا تصدأ وإن اشعاره ملك للامة ويجب ان يرثها الشعب قبل ان يرثيه.
مدينتك الهدى والنور..
الشاعر يتدثر بصوفيته :
لم يكن محمد المكي ابراهيم غير نبض للامة يجسد إحساس الشعب اشعارا وعقيدة وهو يؤمن ان الشعب هو المعلم الذي ألهمه نظم القوافي :
عفوا اجدادي شعراء الشعب..
يا من نظموا عقد الكلمات بشكة سهم ..
ان اعلم ان الشعر يوافقكم عفو الخاطر عفوا الخاطر ..
وسبقتوني في هذا الفن ..
تتجلى قناعة ود المكي بشعبه في اهداء ديوانه الشعري (امتي) :
( الى اصدقائي من الرجال والنساء الذين بما منحوا من الفرحة والألم أخرجوا من ظلمة نفسي واشراقها هذا الشعر)..
مدينتك الهدى والنور ..وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل..وعلى الحصى المنثور ..مدينتك الحديقة اقرب الدنيا الى باب السماء وسقفها المعمور..
هذه القصيدة التي انشدها المطرب السوداني الكبير محمد ميرغني ورددها آخرون تُعد من النفحات الربانية التيةتجعل النفوس تغتسل من سلسبيل النور المحمدي
حيث تدثر فيها الشاعر المجدد بصوفيته المعتقة كونه حفيد السادة الاسماعيليه اقطاب السجادة الاسماعيلية بحي القبة العريق بمدينة الأبيض حاضرة ولاية شمال كردفان..
درس بخلوة الشيخ محمد القرآنية بحي القبة حيث تشرب انفاس الطريقة من
والدته السيدة مريم بنت محمد المحبوب ابن الخليفة والسيد المكي ابن خالته كان يفضل بينها ومنزل الزعيم اسماعيل الازهري مجرد حائط يتخلله نفاج يؤدي الى قبة الشيخ اسماعيل الولي.
درس ود المكي بمدرسة شنتوت بالابيض الأوليةح ثم مدرسة خور طقت الثانوية واحرز المركز الخامس بالشهادة السودانية حينها.
ثم التحق بكلية الحقوق جامعة الخرطوم ودرس اللغة الفرنسية بجامعة السوربون الفرنسية كما التحق بوزارة الخارجية السودانية وعمل سفيرا بالعديد من الدول منها الآسيويةوالافريقية والغربية :
براغ ..نيويورك ..السويد ..
جده ..باكستان ..زائير ..
ويُعد الشاعر محمد المكي ابراهيم من رواد القصيدة العربية الثورية في العصر الحديث نشر مئات المقالات بالصحف والمجلات .
من ابرز دواوينه الشعرية :
ديوان (أمتي)..ديوان (بعض الرحيق انا والبرتقالة انت) ..ديوان (يختبئ البستان في الوردة..).
نال ود المكي وسام الاداب والفنون عام 1977.م
كما ترجمت اشعاره للفرنسية والروسية والانجليزية..وكتبت عن شعره العديد من الدراسات العلمية والرسائل الادبية.
قبل وفاته بيوم واحد منحه الاتحاد العالمي للشعر جائزة شاعر السودان .
وذلك بتأريخ الاحد 28 / 9 / 2024.م وفاءا وتقديرا لما قدمه الشاعر محمد المكي ابراهيم من عطاء فكري وانساني مشهود وهو يحذر أمته من الرواة الخائنين :
في شعاب الأرض
تطعمهم تعزيك العافية
احابيل الزمان وعن قصور اليد
وعن ذل السؤال وعن هوان الصد
وعن طول الحور والوجد
إن صدّ الحبيبُ وضن ..
لانك عن باب الرعب أحنيت الجبين رضىً..قبلت شهادة الكتب القديمة والرواة الخائنين عن الهوى والفن ..ونمت على وسائدهم قرير العين محتقباً ..غثاثة مجدك المخدوع ..
لماذا لم تعشعش كالنسور هواك..على تعاظم نفرة وجماح ..ولم تأخذ حياتك من فخاخ الناهشين
ومن يد السفاح..
لماذا ..؟