الخرطوم _ ترياق نيوز
أثارت الثورة السودانية، في العام المنصرم، اهتماما متجددا بأفكار الوحدة الأفريقية بين الشباب السوداني، حيث يتم الاحتفال بالثقافة النوبية وإعادة النظر في أفكار القادة الأفارقة الثوريين، مثل قائد الحركة القومية لغينيا بيساو أميكال كابرال، والزعيم البوركيني توماس سانكارا الملقب بتشي جيفارا أفريقيا، بحسب الباحث المغربي والناقد الموسيقي والأكاديمي بجامعة كولومبيا هشام عيدي.
وفي مقاله بموقع الجزيرة الإنجليزية، يرى عيدي، أن قلة من الناس فحسب كانوا على دراية بمدى انجذاب مالكوم إكس إلى الحضارة النوبية، وتأثره بشدة بالسودان. رغم أن كثيرين اهتموا برحلاته إلى أفريقيا وتأثيراتها الثقافية، وتفاعله مع أشخاص مثل زعيم غانا المناهض للاستعمار كوامي نكروما، والرئيس المصري جمال عبد الناصر.
لكن تأثير السودان على تفكير مالكوم إكس -وتأثير السودان اللاحق على الثقافة الأميركية الأفريقية- لا يزال غير مستكشف، بحسب عيدي.
الرحلة الأولى لأفريقيا
في يوليو/تموز 1959، قام مالكوم إكس برحلته الأولى إلى أفريقيا. سافر سفيرًا لأمة الإسلام باستخدام جواز سفر يحمل اسمه الجديد، مالك الشباز، وزار السودان ونيجيريا ومصر، وبعد بضعة أشهر غانا وسوريا والسعودية، لكن إقامة مالكوم إكس في السودان كانت مؤثرة، لدرجة أنها تركت انطباعًا قويًا لدى الشاب ذي الـ34 عامًا، وحتى نهاية حياته أشاد بلطف السودانيين وتضامنهم، واستذكر عجائب مدينة أم درمان.
مذكرات سفره ورسائله مليئة بالإشارات إلى السودانيين. في إحدى المداخلات في أبريل/نيسان 1964، كتب عن “الثقة الهادئة” للسودانيين، وفي مداخلة أخرى قال “لم أتوقف أبدًا عن الإعجاب بالسودانيين”.
في 22 أغسطس/آب 1959، أبرق مالكوم إكس بخطاب لصحيفة “نيويورك أمستردام” أخبارًا تفيد أن النّاس في أفريقيا يبدون أكثر قلقا تجاه محنة “الأخوة في أميركا”، مقارنةً بأحوالهم الخاصة، وأن الأفارقة رأوا معاملة أميركا للسود على أنها “مقياس” يمكن من خلاله قياس مدى صدق عروض المساعدة الأميركية لهم. وكثيرا ما ذكر مالكوم السودانيين دليلًا على دعم أفريقيا لكفاح الأميركيين من أصل أفريقي في الولايات المتحدة.
كان مرشد مالكوم إكس في السودان هو مالك بدري، طالب علم النفس البالغ من العمر 27 عامًا آنذاك (توفي في فبراير/شباط 2021 الجاري)، والذي التقى بالزعيم الأميركي المسلم في فندق جراند هوتيل في الخرطوم.
أخذ البدري مالكوم إكس بجولة في أم درمان، ودعاه إلى المنزل لتناول طعام الغداء. يتذكر البدري في مقابلة أجريت معه عام 2018 قائلا: “لقد قرأ (مالكوم) كثيرًا عن الحضارة السودانية القديمة. أكثر ما حركه في الواقع هو الطريقة التي عامله بها السودانيون”. وقال إن مالكوم إكس كان حريصًا على تصوير كل شيء يراه بكاميرته.
لاحظ البدري أن مالكوم كان على دراية جيدة بالتاريخ السوداني، مع اهتمام خاص بالحضارة النوبية والزعيم السوداني محمد المهدي كونه شخصية سوداء مناهضة للاستعمار. واحتلت النوبة -بعد كل شيء- دورًا مركزيًا في سردية جماعة “أمة الإسلام” الأميركية السوداء.
يتذكر بدري السير مع مالكوم إكس إلى متحف بيت الخليفة في أم درمان، الواقع على الجانب الآخر من قبر المهدي، حيث تحدث مالكوم بحماس عن اهتمامه بالمهدي، الزعيم النوبي الذي شن تمردًا ضد نظام حكم السودان (المصري ذو الأصل التركي تحت الوصاية الإنجليزية)، وهزم البريطانيين ليُنشِئ “الدولة المهدية” التي امتدت من البحر الأحمر إلى دارفور من 1885 إلى 1899.
في أكتوبر/تشرين الأول 1962، كتب مالكوم إكس في صحيفة بتسبرغ كورير الأميركية-الأفريقية (The Pittsburgh Courier) “في عام 1959، زرت الخرطوم وأم درمان في السودان، وزرت أيضًا المسلمين في نيجيريا وغانا ومصر والجزيرة العربية. لقد تأثرت أكثر بمسلمي السودان. تقواهم الدينية وكرم ضيافتهم لا مثيل لهما في أي مكان. شعرت حقًا أنني في الجنة وفي وطني هناك”. بعد ذلك بعامين، تذكر بحرارة الطالبين السودانيين اللذين التقاهما في مكة وقالا له بشكل عفوي “الشعب السوداني يحب الزنوج الأميركيين”، بحسب عيدي.
الشخص السوداني الذي لعب دورًا كبيرًا في حياة مالكوم إكس هو أحمد عثمان. التقى عثمان البالغ من العمر 22 عامًا بمالكوم إكس عن طريق الصدفة في يوليو/تموز 1963 عندما دخل إلى “المسجد رقم 7” في هارلم بنيويورك (كان تابعا لجماعة أمة الإسلام والآن يسمى مسجد مالكوم إكس). ولعب عثمان دورا حاسما في حياة الزعيم الأسود، حيث قدمه إلى الإسلام السني، وأقنعه بالذهاب إلى الحج، كما ورد في فيلم وثائقي حديث يتحدث فيه عثمان بتأثر عن الزعيم الأميركي الأسود.
رحلة الحج غيرت حياة مالكوم إكس بالكامل، ترك بعدها منظمة “أمة الإسلام” وقال إن “إدانة كل البيض تساوي إدانة كل السود”، واعتبر بعض الباحثين -مثل المؤرخ الأميركي الراحل مانينغ مارابل- أن تجربة الحج غيرت حياة الأميركي الأسود إذ وجد نفسه محاطا بنخبة من “العرب البيض” والحجاج من البيض والسود على السواء، وكما يشرح عثمان في الفيلم الوثائقي، لعب “الأفرو-سعوديون” دورًا مهمًا في رحلة مالكوم إكس، وخاصة الأديب الحجازي محمد سرور الصبان، الشاعر والسياسي السعودي.
الصبان، الذي وصفه مالكوم إكس بأنه “طويل، أسود، في حالة تأهب شديد”، عيّنه الملك فيصل بن عبد العزيز أمينًا عامًّا لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عام 1962، وهي الفترة التي زار فيها مالكوم العالم العربي.
عين الصبان الشيخ السوداني أحمد حسون، الذي درس في المسجد الحرام بمكة المكرمة، مستشارًا روحيًا له. عاد حسون إلى نيويورك مع مالكوم إكس، وأقام في مقر مسجد المسلمين. لا يزال كبار السن بحي هارلم بنيويورك يتذكرون الشيخ السوداني يسير في شارع “125” بردائه الأبيض وعمامته البيضاء وعصاه التي تساعده في المشي.
ويقول عيدي إن دراسة تأثير الشيخ حسون، المثقف وغزير الإنتاج، على مالكوم إكس لم تتم بعد، لكنه لا يزال يُذكر على أنه رجل طيب ومفعم بروح الدعابة. قال -مازحا- إنه بعد نيويورك، كان سيذهب لنشر الإسلام في ألاسكا.
في 21 فبراير/شباط 1965، اغتيل مالكوم إكس أثناء حديثه أمام تجمع لمنظمة الوحدة الأفرو-أميركية في مانهاتن العليا. في تلك الليلة بالذات، استقل عثمان -الذي كان وقتها طالبًا في دارتموث- الحافلة إلى نيويورك لرؤية بيتي شباز، أرملة مالكوم إكس، التي طلبت منه ترتيب دفن إسلامي تقليدي له. وبناء على طلب عثمان، قام الشيخ حسون بغسل جثة مالكوم إكس وكفنها عشية الدفن، لكنه لم يحضر الجنازة خوفا من الانتقام. وهكذا، أمّ الشيخ هشام جابر -إمام جمعية أدينوا لله العالمية للعرب (Addeynu Allahu Universal Arabic Association Inc) ومقرها نيو جيرسي- صلاة الجنازة.
ومن المثير للاهتمام أن الشيخ جابر يقول أيضًا إنه ذو أصل سوداني، على الرغم من أنه ولد في كارولينا الجنوبية. في سنوات ما بعد الحرب. ولم يكن من غير المألوف بالنسبة للمتحولين إلى الإسلام أن يدّعوا هوية “أميركية مغربية” أو “أميركية سودانية”.
عازف الجاز البارع أحمد عبد الملك المولود في بروكلين -الذي كان في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي يدمج مقام وتقسيم الموسيقى العربية في مؤلفات موسيقى الجاز- قال أيضًا إن نسبه سوداني (على الرغم من أن والديه كانا من سانت فنسنت في جزر الهند الغربية).
كان أحمد عثمان طالبًا في المدرسة الثانوية خلال الموجة الأولى من حركة “إنهاء الاستعمار” الأفريقية، وقد خرج في شوارع الخرطوم للاحتجاج على وفاة اغتيال زعيم الكونغو باتريس لومومبا، وكذلك ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
ومؤخرًا كان في العاصمة السودانية خلال ما عرف بالثورة السودانية، في فبراير/شباط 2020، حيث احتفل بعيد ميلاده الـ78، وقال أمام تجمع للشباب السوداني: “أرى مالكوم إكس جزءًا من الثورة السودانية. لقد أحب السودان. كان سيحب رؤية هذه الأمة العربية الأفريقية تنهض. وشباب السودان -الشباب في كل مكان- لديهم الكثير ليتعلموه من مالكوم. يمكن لشباب اليوم أن يكمل حلمه”. بهذا يختم عيدي.
المصدر / مواقع إلكترونية