الخرطوم / ترياق نيوز
تعيش مصر منعطفا تاريخياً، لا يمس فقط النظام الحاكم وإنما الكيان المصري برمته منذ تشكله عبر آلاف السنين وهي ظاهرة لا سابقة لها، إنه انخفاض أهم شريان حياة المصريين، منسوب مياه النيل بشكل ملفت للغاية بسبب قيام إثيوبيا ببناء سد ضخم .
وأمام هذا المنعطف الخطير، تقف مصر عاجزة للدفاع عن أمنها القومي العميق، وهنا يجري التساؤل عن الميزانيات الضخمة التي خصصها النظام العسكري الحاكم منذ عقود لتراكم العتاد الحربي باسم الدفاع عن حقوق الوطن الأمة.
وقد بدأت إثيوبيا ملء السد الضخم الذي أقامته، وسيتطلب تخزين المياه فيه ثلاث سنوات علاوة على مشاريع أخرى لتشييد سدود مختلفة. وجرت المرحلة الأولى من ملء السد، وخلال الصيف المقبل ستجري المرحلة الثانية في انتظار مراحل أخرى، وهنا بدأ الخطر يضر بالمصالح العميقة والتاريخية لمصر.
ولا يوجد بلد عبر التاريخ ارتبطت مسيرته عبر آلاف السنين بمياه نهر معين، كما هو الحال مع مصر وارتباطها بالنيل منذ عهد الفراعنة إلى القرن الواحد والعشرين. ولا يمتلك النظام المصري حاليا الشجاعة للكشف عن الخسائر الفادحة التي بدأت مصر تتعرض لها وستكون مجبرة على التأقلم معها خاصة في حالة سنوات الجفاف، ونجملها في:
أولا، اعتماد مصر في مياهها بنسبة كبيرة على نهر النيل، وقد أكد وزير الري محمد عبد العاطي منذ شهر تقريبا بقوله في صحيفة «الدستور»: «نعتمد على 97 في المئة من مياهنا على النيل، ونحن نواجه عدم انتظام سقوط المطر ثم ارتفاع الحرارة بشكل مستمر». ويبرز «من التحديات، الزيادة السكانية، ونقص الموارد المائية، حيث نحتاج 114 مليار متر مكعب سنويا، ومتاح لدينا 60 مليار متر، ونعيد استخدام 20 مليار متر مكعب».
علاوة على هذا تخطط إثيوبيا لأربعة سدود فوق النيل الأزرق لحجز كل مياه النيل تقريبا، فهي تريد تحويل النهر إلى بحيرة إثيوبية، وكان أكثر من مسؤول إثيوبي قد صرح «النيل الأزرق بعد سد النهضة لم يعد نيلا وإنما هو بحيرة إثيوبية». وهذه المعطيات كافية لتكوين صورة عن حجم ارتباط مصر بالنيل ومعنى المثال الشهير «مصر هبة النيل» وكيف ستصبح بعد تحويل النيل إلى بحيرة إثيوبية.
ثانيا، في ارتباط بالنقطة السابقة، قطاع الزراعة يحتل مكانة رئيسية في الاقتصاد المصري ويعتمد على مياه النيل للري، وانخفاض منسوب المياه سيجعل الاقتصاد المصري يواجه تراجعا سنة بعد الأخرى، ومن الصعب تحقيق نمو مستقر خلال السنوات المقبلة، بل أصبح الاقتصاد المصري مطالبا بتعزيز القطاعات الأخرى لسد التراجع المرتقب للزراعة. وفي الوقت الراهن يعد هذا من الصعب جدا نظرا لمديونية البلاد وغياب قيادة واعية بمصير ومستقبل البلاد بقدر ما يهمها السيطرة على الشعب.
ثالثا، نسبة كبيرة من الشعب المصري تعتمد على الزراعة، ونسب مهددة في فقدان العمل أو تراجع المحاصيل، وهنا نتحدث عن مواجهة جيل بالكامل لتحديات لا سابقة لها تشبه السنوات العجاف المذكورة في الكتب المقدسة. وسيكون الحل هو الهجرة نحو الخارج. فتراجع مياه النيل سيخلق حالة من غياب الاستقرار خطيرة.
وأمام هذه التحديات، تحاول مصر التشبث باتفاقية تعود إلى الحقبة الاستعمارية حول توزيع مياه النيل بين دول المنبع والدول التي يمر منها حتى الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت ذاته، تأويل لاتفاقية موقعة بينها مع السودان وإثيوبيا سنة 2015 التي تتضمن عشرة مبادئ إلزامية، لكن ما تقدم عليه إثيوبيا يبرز عدم احترامها لهذه المبادئ.
ولم تفض المفاوضات إلى حل حتى الآن رغم تشبث مصر بها ومحاولة إقحام دول كبرى خاصة الولايات المتحدة. ولم تنجح واشنطن ولا عواصم غربية أخرى مثل لندن وباريس في تخفيف التوتر. ويعد الصراع على مياه النيل صورة مسبقة ولكن بكل التفاصيل عن المستقبل المفزع للنزاعات التي سيسببها الصراع حول المياه، وفي هذه الحالة، يتخوف الجميع من تحول سد النهضة إلى عامل يهدد الاستقرار في منطقة هشة وهي شمال شرق القارة الأفريقية وشرقها كذلك.
وهناك معطى لا يمكن تجاهله وهو عدم اهتمام الدول الكبرى بهذا الملف، فهو لا يمس مصالحها، ولن تسعى إلى الحفاظ على استقرار مصر وقوتها. وأمام هذا الواقع، هل يمكن لمصر الدفاع عن حقوقها عن طريق استعمال القوة العسكرية؟ وهل يمكنها جر السودان إلى تشكيل جبهة عسكرية وحدة لمواجهة إثيوبيا؟
تعتبر مصر قوة عسكرية في القارة الأفريقية، وهي تتفوق على القوة العسكرية الإثيوبية. ورغم كل هذا، لا تستطيع مصر الحسم العسكري لهذا الملف الخطير. فمن جهة، يجهل مستوى وجاهزية الجيش المصري لاسيما بعدما قام النظام بتوريط هذا الجيش في مواجهة الشعب بعد الربيع العربي، ثم في توريطه في تحويله إلى فاعل في اقتصاد البلاد، حيث ينظر إليه كقوة مدنية أكثر منها عسكرية قادرة على الدفاع عن القضايا الكبرى للأمن القومي للوطن مثل حالة التعامل مع سد النهضة.
وعلاقة بالعتاد العسكري، يحول البعد الجغرافي بين البلدين دون تنفيذ القوات المصرية أي عملية حربية لتجميد السد، فلا يمكن للقوات البرية الوصول إلى الأراضي الإثيوبية برا بسبب وجود دولة السودان في الوسط. ولا تمتلك مصر قوة بحرية قادرة على إنزال الجنود في السواحل الإثيوبية. ولا تمتلك مصر سلاح جو قادر على توجيه ضربات للسد لتوقيف تشغيله، كما لا تمتلك ترسانة من الصواريخ الباليستية الشديدة الانفجار قادرة على توجيه ضربات مستمرة للسد لإجبار إثيوبيا على التفاوض وتجميد بناء سدود أخرى.
ويبقى الحل العسكري الوحيد هو تكوين السودان ومصر جبهة عسكرية موحدة مثل حشد القوات على الحدود الإثيوبية لفرض واقع جديد. وهذا السيناريو قابل للتطبيق رغم هشاشة الوضع الداخلي للبلدين وخاصة السودان، وقد يفرض على إثيوبيا الرضوخ النسبي لمطالب الخرطوم والقاهرة في مياه النيل.
ولا يبعد سد النهضة عن حدود السودان سوى عشرات لكم، وهي مسافة قصيرة تسهل عملية القصف الجوي وعمليات الكوماندو للتخريب بل حتى نقل قوات برية كبيرة.
ويواجه هذا السيناريو عائقان:
أولا، انتفاضة دولية ضد الحرب واحتمال انضمام دول أفريقية لدعم إثيوبيا في وجه الهجوم الثنائي، بل وقد يؤدي إلى نزاعات عرقية بين شمال أفريقيا العربي وباقي القارة السمراء.
ثانيا، لا يمكن الاستهانة بمستوى القوات العسكرية الإثيوبية. فقد كانت أديس أبابا تقوم بتشييد سد النهضة، وبالموازاة مع ذلك تعيد هيكلة قواتها العسكرية بمساعدة دول مثل فرنسا وإسرائيل واقتناء أسلحة نوعية مثل الأنظمة المضادة للمقاتلات والصواريخ والقاذفات التي تستهدف السفن الحربية.
لقد منح النيل الحياة لكل من السودان ومصر، والآن يقوم بتغيير مجرى تاريخها بشكل درامي لم يكن مرتقبا.