” امرأة نثار ” الرسم بالكلمات أو كلمات مرسومة
القاهرة في : بدر الدين العتَّاق
تمهيد
يشكر للكاتبة الأستاذة الموريتانية أم كلثوم أحمد ، عضو مجلس اتحاد الأدباء والكتَّاب الموريتانيين التي أطلعتنا من طريق دعوة الأستاذة الإعلامية المصرية القديرة أسماء الحسيني لحضور مناقشة كتابها الروائي ” امرأة نثار ” ، على مفاهيم وثقافة جديدة عن بلاد موريتانيا أو بلاد شنقيط التي تربطها بالسودان خلاف العروبة والأفريقانية أواصر الإنسانية أولاً ثم التلاقي العرفي بين سكان أفريقيا عموماً ثانياً ، وما نبحث عنه في تأطير وتجسير العلاقات المعرفية بإنسان شمال القارة السمراء وكل بلادها العظيمة التي ما فتات تقدِّم لنا أصالتها في شتَّى المجالات الحياتية وما زالت تبذل المزيد في هذا الاتجاه بكل جهد وصدق ، قال شاعرنا المجيد المرحوم / محمد محمد علي ( 1922 – 1970 ) يحكي عن أفريقيا حاضرة العالمية اليوم :
أفريقيا كانت مجاهل ظلمة فكأن من خلقوا بها لم يخلقوا
أفريقيا طوت الظلام وودعت حقباً عجافاً لا تعي لا تنطق
كانت كأهل الكهف إلَّا أنَّها في كهفها تحس الأسى فتؤرق
وهو القائل أيضاً من قصيدة مولد شاعر :
وإن دوَّى هزيم الطار بين أكف مداح
وسالت نغمة الشادي على رسل واسماح
وفاض الدمع من مقل تنام وشوقها صاحي
ترنح خطوه طربا كمصبوح من الراح
*****
وإن غني على الرق مغن ماهر غرد
وردد خلفه صحب طراب ليلهم سُهُد
وماجت رقصة الحسناء طوع الرق ترتعد
أطل الوجد من عينيه مثل الجمر يتقد
هذا ! وأنا أحاول تقديم رواية الأستاذة الكاتبة ” امرأة نثار ” المطبوعة في دار النخبة بمصر لسنة 2024 لقرَّاء العربية فيما وقر استسماحاً في نفسي من قبول فكرة النص الذي أراه جيداً ويحمل مضاميناً جيدة في ذاتها بغض النظر عن التطويل الفاحش في بعض فصوله وإني لكنت أرجو أن تكون الرواية أقل مما طبعت في عدد صفحاتها كي لا تفقد عناصرها الإيجابية وسط معمعة التطويل الذي يفر منه القارئ فرار الظليم من الهزبر ذلك بحكم المعاوضة في الميديا من الفيس بوك والواتساب وهلم جرَّا التي يستكثر الكثير من أبناء جيلنا القراءة الورقية في زمن التيك توك والله المستعان ، فأنا أقدِّم فنَّاً جديداً لإنسان أفريقيا والوطن العربي والعالمي بلا ريب .
تعريج على النص
تتلخص بعض مواضيع الرواية في المعاناة الذاتية للتجربة الشخصية قل : أو المتخيلة مع حقيقة البيئة والواقع والتي أطلقتُ عليها ” التشظي نثارها المتعدد الأفكار والمتنوع الأحاسيس ” ومحاولة الخروج من عباءة القديم لا تكلفاً ولا كراهة لكنه استقبالاً لعهد جديد معاصر مع حركة الحياة اليومية المفروضة وهذه معادلة صعبة بلا شك ، قالت صفحة ١٦٥ : ( يجعل الذكريات تجيش رأيت أمي وأبي ورأيت مساكننا وحتى الأواني رأيتها وزوابع الريح الهوجاء في فراغات المدينة؛ بيتنا في انواذيبو المنفرد على الكثيب الأبيض وبيوتات الحي في سيزيم؛ رأيت الماضي بأمكنته المختلفة المتناثرة على جدار الزمن الميت الباهت؛ الزمن ذلك الوهم المبتلع لذكرياتنا في جوفه) .
هذه صورة البيئة ومحاولة التغلب عليها وإن كانت متخيلة فإنَّها في ذات الوقت تحمل من الواقعية ما لا غنى عنه ، لاحظ الفصل الحادي عشر مثلاً عن الثقافة السنغالية؛ تأكيد للخطوات الأفريقية المختلفة والتعرف إليها عن قرب؛ وهو فصل جيد وجميل أحببته جداً ص ١٦٧ – ١٧٣، وترتبط بما فوقها من فقرة ، فهو يدور – أي الفصل الحادي عشر – في فلك الثقافة المحلية ذات العلاقات المجتمعية المتشابهة المعكوسة على واقع في بلاد قريبة الجوار .
أمر ثاني ، الوصف الإنشائي؛ وهو الذي يزيد الفصول طولاً وتحسب عليها لاحقاً إن لم تتداركها اليوم في كتاباتها المستقبلية ، محاولة للتحدث أو إظهار أكبر قدر ممكن من التمرد على العادات والتقاليد في محيطها الحياتي إذ أغلب فصول الكتاب لا تخلو من تلك الإشارة كما جاء في كل صفحات الكتاب ذي الأربعمائة وخمس صفحة فتأمل .
كذلك فصل الطبيب النفساني المعالج ، لا يخلو من إشارة لوجوب معالجة المجتمع نفسه من حيث التمرد على التقاليد السالبة التي لا تتوافق مع مفاهيم الحداثة وفي ذات الوقت تؤكد على وجوب الاحتفاظ بالأصول لا رفضها تماماً ولا قبولها كلياً ص ٢٢٧ .
مثال ثالث ، التعبير من حالة النثار الكتابي مرَّة بالرسم ومرَّة بالكلمة ومرَّة أخرى بالتطبيب الاجتماعي للشخصية المحورية / الأنا المتعددة في الجماعة أو للتدقيق : امرأة واحدة في نساء كثيرات / بقبول فكرة تيارات التغيير الحداثي العالمي وإن شئت العولمة المفروضة على طبيعة المجتمع المحافظ كما في الصفحات الأولى .
التشظي والوقار مرة أخرى؛ قالت ص ٢٧ : ( تتعايش نساء كثيرات في داخلي كلما برزت إحداهن قوبلت بالاستنكار؛ لا يفهمون تعددي يريدونني امرأة على مقاسهم؛ أولئك الغير كلهم يريدونني وفق نموذجهم المعد سلفا في أذهانهم وأنا لا أحتمل الحيز المعد سلفا؛ لست امرأة واحدة بالطريقة المعهودة؛ بل نساء في امرأة ) هنا تلحظ التمرد التعددي على فكرة التنميط والتدوير في قالب كرتوني واحد؛ حيث تطالب بتعدد المفاهيم حول المرأة بتعدد أفكارها وأحاسيسها ، وهذه في تقديري من أهم رسائل الرواية إن لم تخني نباهتي ، وكذلك ص ٢٥٠ ذات الصلة بين تعدد الذوات في شخص واحد أو قل امرأة واحدة .
خذ قضية الحب أو الرومانسية التي أخذت منها فصولاً كثيرة وكأنَّها تعبر عن مكنونها الذاتي في إطار تجربات مماثلة؛ ص ١٩٣؛ الفصل الثاني عشر وص ١٨١.
ومما راق لي أيضاً قولها ص ١٦٥ – ١٦٦ : [ يظهر ذلك على سحنته الداكنة الممسوحة بغبار أديم التيه في براري حواف الأرض ] هذه عبارة جيدة للغاية ، فالكاتبة لها مقدرة على توظيف اللغة العربية في قوة التعبير عن المراد بصورة رائعة فمثل هذه العبارة لا تتفق مع أي روائي يجيد تصريف اللغة ، اقرأ معي :
ألم تر أن الشمس كانت مريضة فلما ولي هارون أشرق نورها
فألبست الدنيا جمالاً بوجهه فهرون واليها ويحي وزيرها
خلاف ذلك ، تبرز الكاتبة التنوع الثقافي الأدبي العربي القديم وأنا منذ فترة طويلة للغاية لا أعرف من يعرف تاريخ الدولة العباسية أو الدول القديمة في الشام مثلها اليوم وهذه جناية الحداثة على القديم كما ترى .
أمر آخر ، اتجهت الكاتبة أو ساقنا النص إلى البُعد الصوفي أو الفقهي بالذات إن شئت إذ لا يخلو النص كذلك من إشارة إلى النَّفَس الصوفي وذكر كثير من آيات القرآن والتمثيل بها ، اقرأ معي ما جاء بالفصل العاشر ص ١٦٦ : ( لتغير حال أولئك البؤس؛ انتبذت مكانا قصيا ) مما يحمل قيمة أدبية ثقافية مشبعة بالوعي التصريفي لمراد الكاتب؛ وهذا كثير وليس بغريب على أهل بلاد شنقيط فقد عرفوا بالملكة في اللغة ونباغة في الفهم وسرعة في الحفظ وتمام في السليقة؛ لكونها ذكرت معرفتها بنكبة البرامكة وطمعهم في ملك هارون الرشيد ، وهذا لعمري جديد في باب الرواية لكنه إيجابي بلا ريب .
الفصل الثامن عشر ؛ الشيخ سيد أحمد؛ تكرار لمشهد التصوف أو الناحية التوحيدية لجوانب حيواتية أخرى وفق التعدد الأنثوي المنصهر في نفس امرأة واحدة؛ تشير إلى الجانب المشرق في ملاذ الدين الآمن عندما يشتد بالإنسان الكرب ص ٢٦٤ – ٢٧٢؛ أو قل المعالجات الروحانية وهذا كثير من أوجه التقارب بين فكرة التداوي والعلاج عند المشايخ في السودان وعموم أفريقيا بالطقوس الوثنية أو الإيمان بالظواهر الكونية حال غلبة الفكر والعلم على الناس؛ فيلجؤون إلى قوة روحية أكبر وهذا معروف بطبيعة الحال قالت : ” قال؛ العبد موجود والكون موجود والله موجود؛ وعلى العبد اختراق الكون حتى يصل إلى الله والكون حجاب يتلاشى بالذكر أو اتباع النبي أو صحبه شيخ كامل ” .
وانظر إلى هذه الفقرة الماتعة ص ٣٥٣ : ” كنت أجد أن الله ليس في دائرة ضيقة وقد تعبد الله وأنت ترسم أو تسمع الموسيقا أو تنظر إلى منظر ” لا تخلو من فلسفة عميقة قديمة جديدة وهذا معروف في فلسفة التأمل والتصوف .
خلاصة سريعة
أقول بإعجابي على عجل فقد أخَّرت هذه الكلمة أكثر من أربعة أشهر ( 8 / 8 / 2024 ) حين أهدتني النص قائلة ” ( إلى السيد / بدر الدين العتَّاق ، الناقد السوداني ، أُهدي روايتي ” امرأة نثار ” أم كلثوم ) بهذا النص ، فقد عرَّفت الكاتبة على جوانب موريتانية إنسانية ذات تشابه كبير في المنطقة الأفريقية وخصوصاً السودان كالثوب والحِنَّاء والنقوش على الجسد والالتزام الأخلاقي في الشارع العام إلى غيرها من أوجه التشابه بيننا وبين بلاد شنقيط من عُدَّة جوانب خلاف الجانب السياسي ذي الخبر الاسفيري ، وأتمنى لها دوام التوفيق في كتاباتها الروائية القادمة وأهنئ قُرَّاء العربية بهذا السفر الجيد بلا ريب .