الخرطوم _ ترياق نيوز
كتب رئيس المكتب التنفيذي للتجمع الإتحادي بابكر فيصل حول الدور الروسي في السودان ما يلي :
ربما أعطى الحديث الذي أدلى به المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، لبرنامج “المقابلة” الذي تبثه “قناة الجزيرة” حول المنطلقات والمحددات التي تحكم السياسة الخارجية الروسية وكيفية اتخاذ القرار في البلد الذي يسعى لاستعادة نفوذه العالمي، الذي فقده بعد زوال الاتحاد السوفيتي، مؤشرا لطبيعة الدور الروسي في السودان.
قال دوغين إن أفكاره تتطابق مع أفكار الزعيم الروسي في القضايا الجيوسياسية وأنه “يُنظِّر و(فلاديمير) بوتين يُطبِّق” على أرض الواقع.
وأشار إلى أن المُحدِّد الرئيسي لتلك القضايا يتمثل في كيفية “مواجهة النفوذ الأميركي في العالم”، موضحاً أن “روسيا هي بوتين” وهو من يحدد كل شيء في السياسة وأن في بلاده “القانون لا شيء والحاكم كل شيء”. كما أكد دوغين أن أفكاره انتشرت بين أوساط القوة في بلده وخاصة الأوساط العسكرية وجهاز الاستخبارات.
إذا، نحن هنا بإزاء توجه روسي خارجي ينبني في وجهته الأساسية على الحد من النفوذ الأميركي حول العالم، وهو توجه عملي لا يزعم أنه يسعى لمساندة قيم الحرية أو الديمقراطية أو حكم القانون، بل يتعامل مع الأنظمة المعادية للموقف الأميركي فحسب، ولا سيما تلك التي تسندها القوة العسكرية والاستخبارية في البلد المعين الذي يكون فيه “الحاكم هو كل شيء”.
وإذ تطمح روسيا إلى استعادة مواقع النفوذ الاستراتيجي التي فقدتها بزوال الاتحاد السوفيتي في أفريقيا، فقد سعت لتوطيد علاقتها مع الرئيس المخلوع، عمر البشير، الذي قام بزيارة موسكو، في يوليو 2018، وطلب من بوتين حمايته من المخططات الأميركية الهادفة لإسقاط نظامه الحاكم، واتفق معه على إقامة قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر.
لا شك أن السودان، بموقعه الاستراتيجي مقابل خليج عدن على البحر الأحمر، يشكل أهمية قصوى لموسكو، حيث تعبر ذلك الممر المائي حوالي 10 بالمئة من البضائع العالمية بما فيها النفط والغاز الطبيعي، كما أن روسيا تستطيع من خلال إقامة قاعدة على البحر الأحمر الربط المباشر مع قاعدتها البحرية في طرطوس السورية فضلا عن تمكينها من لعب دور فاعل في النزاعات الدولية.
قد عانى نظام الإخوان المسلمين الذي ترأسه البشير من عزلة دولية كبيرة فرضتها عليه الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مما جعله يتجه شرقا لخلق علاقات اقتصادية وسياسية استراتيجية مع الصين، خصوصا في مجال صناعة النفط، لتصبح بكين أكبر شريك تجاري للخرطوم وأكبر مدافع عن نظامها الحاكم في الأروقة الدولية خاصة مجلس الأمن.
ولكن الصين لم يكن باستطاعتها تقديم العون العسكري الذي طمح إليه البشير المعزول من قبل العالم والمحاصر من قبل شعبه، والذي كان يراقب عن كثب الدور الروسي في سوريا حيث لم تتوان موسكو عن إرسال قواتها العسكرية لإنقاذ حليفها بشار الأسد، ومن هنا جاء طلبه لبوتين لحمايته من التدخل الأميركي.
حينها كانت موسكو قد بدأت وضع أقدامها في السودان عبر عدد من شركات التعدين الروسية التي منحتها حكومة الرئيس المخلوع الترخيص للتنقيب عن الذهب في ولايتي نهر النيل والشمالية (يعد السودان ثاني أكبر منتج للذهب في أفريقيا), وكذلك عبر شركات المرتزقة الأمنية وعلى رأسها شركة “فاغنر” التي أعانت أجهزة الأمن على قمع التظاهرات.
ومن ناحية أخرى، فإن روسيا لم تكتف بالاستثمارات المعدنية والشركات الأمنية بل أصبحت مصدرا رئيسيا من مصادر السلاح للسودان خلال العقدين الأخيرين، حيث تقدر بعض التقارير أن صادرات السلاح الروسي للخرطوم خلال فترة حكم الإخوان المسلمين، بين عامي 1997 و2017، قد بلغت حوالي مليار دولار أميركي.
وبعد سقوط نظام الإخوان المسلمين، استمرت روسيا في توطيد علاقتها مع الجيش السوداني، حيث وقعت موسكو والخرطوم، في مايو 2019، اتفاقيتين عسكريتين جديدتين، إحداهما تهدف إلى تبادل الخبرات المتعلقة بعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام والأخرى لتعزيز التعاون في المجال البحري.
ومع قيام الحكومة الانتقالية المدنية، بدأ السودان في استعادة علاقاته الدولية، خاصة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حيث قامت واشنطن بخطوات كبيرة لتطوير علاقتها مع الخرطوم، شملت رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وتقديم المساعدات المالية وإعادة التعامل مع المؤسسات الدولية المانحة فضلا عن ترفيع التبادل الدبلوماسي بين البلدين.
وقد تبدى جليا أن الولايات المتحدة تسعى من جانبها لجعل السودان شريكا أساسيا لها في المنطقة التي غابت عنها لفترة طويلة مما سمح بتمدد النفوذ الصيني والروسي كثيرا.
وهو الأمر الذي اتضح من خلال الاهتمام الكبير الذي أظهرته إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وكذلك الرئيس الحالي، جو بايدن، فضلا عن المشرعين في الكونغرس من الحزبين تجاه ضرورة إنجاح الفترة الانتقالية في السودان، وهو الأمر الذي انعكس في الجهد السياسي والدبلوماسي اللصيق والزيارات غير المسبوقة للمسؤولين الأميركيين للخرطوم.
وعندما قام المكون العسكري في مجلس السيادة بالانقلاب على الحكومة المدنية والأوضاع الدستورية، في 25 أكتوبر الماضي، إتخذت الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، مواقف واضحة مناهضة له أتبعتها بقرارات نافذة بوقف المساعدات المالية وتجميد التعاون مع المؤسسات الدولية المانحة إلى حين إنهاء الانقلاب وعودة المسار المدني الانتقالي.
أما روسيا فقد وقفت على الضفة الأخرى وحالت دون اتخاذ مجلس الأمن قرارات تُدين الانقلاب وتدعو المكون العسكري إلى استئناف الأوضاع المدنية بشكل فوري، وهو الموقف الذي يتماهى مع سياسة موسكو التي أشرنا إليها في صدر المقال والتي تهدف لمجابهة النفوذ الأميركي حول العالم وتعتبر أن الحاكم الذي يملك القوة العسكرية يمثل كل شيء.
وإذ تكاد الأزمة السودانية تصل ذروتها عبر استمرار الرفض الشعبي الواسع للانقلاب مع تمسك العسكر بالسلطة، فإن مواقف الدول الخارجية ستلعب دورا مهما في ترجيح إحدى الكفتين، فبينما تنشط المواقف الداعمة للحكم المدني في تكثيف الضغوط بحثا عن حلول تتوافق مع مطالب الجماهير، لا يزال الدور الروسي يُغري الجيش بالمضي في تثبيت أركان الانقلاب.
ومع أن كل المعطيات الموضوعية تؤكد أن المضي في طريق تشديد القبضة الانقلابية ومواصلة أساليب القمع والتنكيل وتضييق الحريات ستعصف باستقرار البلد، فإن الدرس المستفاد من انقلاب 25 أكتوبر هو أن مغامرات العسكر لا تخضع لتلك المعطيات وأنه من غير المستبعد أن يمضوا في ذات الطريق ولو أدى ذلك لانزلاق البلد في الفوضى والحرب الأهلية الشاملة.
تُغريهم في ذلك تجربة سوريا حيث نجح بشار الأسد في تثبيت أركان حكمه (بالطبع ليس على كل التراب السوري) مستقويا بالعسكرية الروسية .
وربما تؤكد صحة الحديث أعلاه المجزرة المروعة التي ارتكبها العسكر ضد المتظاهرين، يوم 17 يناير، وكذلك القرارات التي أصدرها مجلس الأمن والدفاع، والتي شملت قرار “تأسيس قوة خاصة لمكافحة الإرهاب لمجابهة التهديدات المحتملة”، وهى خطوة تمهد الطريق لإطلاق يد الأجهزة الأمنية لممارسة المزيد من القتل والتضييق والاعتقالات في مواجهة الثوار الذين استمروا في الخروج للشوارع لمقاومة الانقلاب منذ فجر وقوعه في 25 أكتوبر الماضي .