مواطن يدفن حافلته خوفا من ” الشفشفة “…دموع على قبر الحبيبة .. حكاية طائر الفينيق السوداني !

عندما عقد عبد الباقي العزم للنجاة بأسرته من لهيب الحرب التي بلغت مشارف الحي، لم يفكر في أوراقه الثبوتية، ولا حتى في مؤونة تكفي مسافة الطريق، بل كان تفكيره منصبا على شيء واحد فقط:
العربية!
العربية التي أطلق عليها عبد الباقي (الحبيبة) لم تكنْ مجرد وسيلة نقل ومصدر رزق، بل كانت عمره، عرقه، وقروضاً مرهقة وسُلفاً من أصحاب.. ويوم اشتراها زغردت زوجته وسهر أطفاله فرحا وتقاطر أهل الحي مباركين.. ذبح خروفا كرامةً لها وطبع كفه المصبوغة بالدم على بابها ، ووقف بكل زهو أمامها مرددا مقاطع من قصيدة محمد المكي إبراهيم (بعض الرحيق أنا):
من اشتراكِ اشترى
فوح القرنفل
من أنفاس أمسيّه
من اشتراك اشترى
للجرح غِمداً
وللأحزان مرثيه
الناس في هرج ومرج كيف لهم مغادرة الحي الذي اقتربت منه بنادق الجنجا..وعبد الباقي شارد الذهن.. لم يغمض له جفن.. يتقلب، يخطط، يرسم خرائط وهمية ،حتى صاح عند الفجر مثل أرخميدس وجدت الحل..
“أدفنها”
مع أول حزمة ضوء، بدأ عبد الباقي بمعاونة ابنيه الحفر عميقا وسط فناء الدار، وخلال ساعات النهار ساعده الجيران، والجميع في سباق مع غروب الشمس موعد بداية رحلة النزوح…
اكتمل حفر قبر الحبيبة ..أنزلها بحرص.. ثم غطّاها ببساط قديم وبخرق بالية، ودسّ داخلها بعض مقتنيات أسرته ثم أهال عليها التراب.. زوجته وعياله عند حافة القبر يكفكفون الدموع وهم يلقون نظرة الوداع… أما عبد الباقي فوقف بمحاذاة مقعد القيادة، رافعًا كفيه للسماء:
“اللهم أجعلها في ودائعك التي لا تضيع”
مرّت الشهور ثقيلة، وعبد الباقي أصبح فؤاده فارغا إلا من ذكر الحبيبة.. وعندما بلغه أن منطقتهم تم تحريرها هبّ مسرعا إلى داره تسبقه أشواقه وتسأله نفسه: هل نجت الحبيبة من معاول الجنجا الذين ما تركوا شيئا فوق الأرض ولا تحت الثرى إلا وخربوه ونهبوه؟
وصل عبد الباقي المنزل ووجد باب السور مخلوعا.. تراجعت آماله في أن يجد شيئًا إذا كان هذا هو الحال، دلف متعثر الخطى إلى فناء الدار، فإذا به ساكنٌ وموحش تغطيه الحشائش…أمسك بالطورية وبدأ يحفر بحرص وانتباه كعالم آثار يبحث عن كنز مفقود..
ارتطمت آلة الحفر بجسم معدني وهنا خفق قلبه وتضاعفت آماله.. وعندما ظهر سطح الحبيبة صرخ بانفعال وبدأ في إزاحة التراب بيد مرتجفة كما يمسح الراهب الغبار عن تمثاله المقدس ..
المشهد لم يكن ينقصه سوى موسيقى تصويرية تصاحبها دموع وابتهالات، لأن الحبيبة خرجت من تحت التراب كأنها طائر فينيق ينهض من رماد أسطورته..
منقول من وسائط السودانيين