فاجأ الفريق ياسر العطا أھل السودان، بأن القائد العام للجيش الفريق أول عبدالفتاح البرھان، سيظل رأسا للدولة بكامل صلاحياته السيادية، ليس خلال ما أعتبرھا فترة انتقالية تجري الآن فقط، مؤكدا أن وجود “البرھان” في ھذا الموقع سيمتد لما بعد أربع أو خمس دورات انتخابية قادمة.
إن ظاھرة اغتراف جنرالات الحرب ولورداتھا ھذه الأيام، من قاموس التهريج والمهاترة، بما شاء لهم حظهم التعس، أن يغترفوا من مفردات تعبر في الواقع عن أحوال عنترية زائفة، لا تقل عن نَفخةِ هِرٍ يحكي صَولةَ أسد، ومن شتائم لا تشبه إلا لغة قاع المدينة، طالت فيما طالت حتي رؤساء دول وحكومات في محيطنا القريب.
فالسقوط في مستنقع العنف اللفظي، بمبالغة وتھويل، وبإسراف غير مبرر في لغة التھديد والوعيد، ھو في الحقيقة دليل علي فقدان أعصاب، بأكثر منه دليل قوة وحزم وعزم، قادر علي أن يُحيلُ مثل ھذه الأقوال الجوفاء لأفعال.
فمرارة واقع الحرب، وبؤس نتائجھا علي الأرض، يبدو وكأنه قد سفه أحلام ھؤلاء الجنرالات، وبدد أوھامھم كفقاعات تلاشت في الھواء.
فقد ظنوا أول ما ظنوا بسوء تدبير وتقدير، أن ھذه الحرب ستكون مجرد نزھة ساعة أو ساعتين، يعقبھا بكل سھولة ويسر، سيطرة ونصر، يفرش طريقھم بالورود للاستفراد بالسلطة والحكم من جديد.
المھم فالعطا والبرھان ظلا خاضعين في ظني لأثر نبوءتين غريبتين، امتد تأثيرهما علي كل ما يأتيان ويدعان من أفعال وأقوال.
نُبوءةٌ أولي بدا وكأنها لا زالت تُعشَّعِشُ، تُبِيضُ وتُفرِخُ، في ذهن الجنرال برهان، الذي راهن بما يملك وما لا يملك، علي تحقيقها كما هي، أو أن يهلك دونها.
إذ إنها نبوءةُ أبٍ، كسائر الآباءِ لإبنٍ من أبنائه، لا تعدو في الحقيقة أن تكون مجرد أُمنية، بيد أنها أُمنيةٌ بات تحصيلها، والاستمرار في العمل لإنجازھا، فادح الثمن لأبعدِ الحدود، بما ترتب علي الإبرارِ بها الي الآن من تبعاتٍ كارثية ليس أقلھا الحرب الحالية، التي أورثت شعبا كاملا وبالاً وخبالاً، وأرهقته من أمرهِ عسرا عسيرا لا طاقة، ولا قبل له به.
يقول البرهان حرفيا في مقابلة صحفية سابقة: “والدنا أحسبه رجلا صالحا، قد ذكر بالنص أنني سأكون ممن يحكمون السودان، ولعل من المصادفات السعيدة هي أنني من مواليد 4 يوليو 1960م وهو ذات يوم توقيع اتفاقنا مع الحرية والتغيير الذي أنقذ السودان في أمسية 4 يوليو 2019م، وهذه مصادفة طيبة”.
إذ لا يخفي من خلال إجابة البرهان هذه، الي أي مدي هو علي ثقة في نبوءة أبيه الرجل الصالح بحكم السودان، بل واعتقادا في نفسه ذاتها، برز من خلال ايراده شاهد اقتران تاريخ ميلاده، بتاريخ توقيع الاتفاق السياسي، مع تحالف الحرية والتغيير آنذاك، الذي إعتبره بكل بساطة، من المصادفات السعيدة.
المهم فإن لشهوة الحكم مثيرات اسطورية، ومحفزات خرافية أحيانا، من بينها بالطبع الركون الي مثل هذه النبوءات والمصادفات، والتعويل عليها رغم ما يكتنف تحقيقھا من مصاعب ومخاطر.
وبدا لافتا ان ظاهرة تثمين مثل هذه النبوءات وتاثيرها من بعد علي سلوك هؤلاء الجنرالات، ليس قاصرا علي الجنرال البرهان فحسب.
بل ان قائدا اخر من قادة انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر، الجنرال ياسر العطا، بطل قصتنا اليوم، كان قد كشف أيضا فيما يشبه التباهي عن نبوءة للزعيم العراقي الراحل صدام حسين ترشحه لحكم البلاد.. قال العطا: “دخلت مع الرئيس صدام في نقاش حول نظريات التخلل، وأشكال المناورة، والمناورة العمودية بطائرات الهيلوكوبتر، ورأس الجسر، وكذا، وكذا.. وفي النهاية قال لي صدام: انت في قوات شنو هناك؟ – يقول العطا – قلت ليهو انا في قوات الاستطلاع، فقال لي: ان قوات الاستطلاع ستحكم السودان في يوم من الأيام.
والي ان يقول العطا: جاء وفد وصدام يتكلم، فذكر لهم ان ياسر العطا لو ما عملتوا حسابكم، هو من سيكون خطرا ليس علي البلد، بل علي الحزب الحاكم”.
خلاصة القول: أتصور أن مثل هذه الخطرفات الجنونية، هي التي أحرقت البلاد، بل ووضعتھا علي شفا التمزق والتبدد والانهيار.
انظر بالمقابل كيف يفكر جنرال كبير علي مستوي العالم، هو الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة اركان الجيش الأمريكي، ” اقوي جيوش العالم” وهو يقول امام برلمان بلاده:
“أنا أؤمن إيمانا راسخا بالسيطرة المدنية على الجيش كمبدأ أساسي لهذه الجمهورية وأنا ملتزم بضمان بقاء الجيش بعيدًا عن السياسة الداخلية.
هذه البلاد لا تريد أن ترى جنرالات يختارون أي أوامر يريدون طاعتها”.
في حين يصر “العطا” الذي وصفت الباحثة المصرية المتخصصة في الشأن السوداني الدكتورة اماني الطويل جيشه بكلمة واحدة: “أنه ضعيف”.
لكن برغم حال ھذا الجيش، الذي بات لا يغيظ عدو ولا يسر صديق، يصر مساعد قائده “العطا” علي القول بأسم ھذه المؤسسة وعلي علاتھا التي لا تخفي، وبكل تِيهٍ وصلفٍ وخُيلاء:”بعد الحرب سنتجاوز كل القوي السياسية، وسنشكل -أي الجيش- فترة تأسيسية لعدة سنوات”.
تصور؟!.