اجتمع السودان، كما يليق به أن يكون، وكما نعرفه تاريخيا بكل أطيافه وفئاته، متآلفا متحابا، في رحاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ليطلق باكورة الاحتفاء بذكرى ميلاد محجوب محمد صالح، الصحفي السوداني العتيد، ولينفي هذه الصورة البغيضة التي تطل علينا يوميا، ونرى فيها السودانيين يحاربون بعضهم البعض من أجل طموحات سلطوية للبعض منهم، أو مكاسب عرقية أو قبلية لبعض آخرين أو مكاسب أيديولوجية عفا عليها الزمن، وثار عليها الشعب كما يمارس نفر ثالث. محجوب محمد صالح المحتفى بذكرى ميلاده١٢ إبريل، يطلق عليه عميد الصحافة السودانية، وهو في مكانه مركزية في الصحافة السودانية مماثلة لمكانة محمد حسنين هيكل، في الصحافة المصرية؛ فالرجلان من رواد المهنة، والرجلان بدءا مسيرتيهما في خمسينيات القرن الماضي، حيث أسس محجوب محمد صالح، صحيفته الأيام، وبدأ هيكل مسيرة مغايرة للصحفيين المصريين في هذا التوقيت، حط بها في الأهرام كمحطة أخيرة، حيث أسس الرجلان في الأهرام، والأيام مركزين للدراسات بتواريخ متفاوتة مستهدفين دراسة أوضاع وطنيهما، المركز المصري كان الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام ١٩٦٨ في أعقاب هزيمة ١٩٦٧، تلبية لتحدي الانتصار الإسرائيلي، حيث وجب دراسة العدو عن كثب، بينما كان مركز الأيام هو تلبية لاحتياجات السودان في التنمية الثقافية التي هي الطريق الصحيح نحو بناء الأمم وصناعة اندماجها الوطني. الرجلان والمركزان المصري والسوداني كانا استجابة صحيحة للتحديات الماثلة، وتعبيرا عن فهم ريادي للرجلين، حاولا فيه اكتشاف الطريق نحو الصعود على الدرج الصحيح في مسيرة البناء الوطني لبلديهما. وإذا كان محمد حسنين هيكل، هو ابن للأمة المصرية المندمجة وطنيا بحكم قدمها التاريخي، فإن صالح هو ابن لأمة حديثة نسبيا لم تجد طريقا بعد للاندماج الوطني الشامل، وهو الأمر الذي يفسر لنا الحرب القائمة راهنا. في هذا السياق، تجيء قيمة محجوب محمد صالح، المضافة مقارنة بهيكل، ويجيء تقدير كفاحه في الضمير الجمعي السوداني، بل والنطاقين العربي والإفريقي، حيث كان قلما وصوتا وطنيا مستقلا في وقت، كانت هناك أثمان مدفوعة للوطنية السودانية، وللاستقلال معا في بلد، يعج بالانقسامات وفي أحيان كثيرة، ويسيطر عليه الاستقطاب السياسي. في عموده أصوات و أصداء، كان محجوب محمد صالح، هو صوت المواطن السوداني العادي المتطلع إلى وطن مستقر، ومستقل يلبي احتياجاته بكرامة، ويسود بين أهله سلام وقبول كل طرف للآخر . هذه الكلمات البسيطة الاستقرار والاستقلال والكرامة، وقبول الآخر هي محور المعارك التي قادها محجوب محمد صالح، طوال تاريخه المهني، في سياقات صعبة في التاريخ السوداني الحديث، وذلك بين نظم سياسية متفاوتة الإيمان بحرية الصحفي، واستقلال قلمه، وتحت مظلة نظم عسكرية سودانية في المجمل، تعتبر القلم الحر والمستقل أهم المهددات. قلم محجوب محمد صالح الوطني والمستقل، هو ما أهله ليكون عضوا في البرلمان السوداني عام ١٩٦٤، بعد ثورة أكتوبر وهو القلم الذي صنع مكانته التي لم يضاهيها أي صحفي سوداني في أجيال مواكبة أو ملاحقة للرجل، ونتيجة لذلك حصل محجوب محمد صالح، على جائزة القلم الذهبي العالمية عام ٢٠٠٥، حيث كنت في شرف استقباله في مطار الخرطوم مع لفيف واسع من النخب السودانية على المستويين المحلي والعالمي. وإذا كانت جائزة القلم الذهبي قد توجت مسيرة صالح، في حصد الجوائز، فإنها لم تكن الوحيدة، حيث حصد الرجل جوائز من جهات ومؤسسات عالمية أخرى، ولكن أعزها على قلبه، كما أعلم تلك الجائزة السودانية التي حصل عليها عام ٢٠١٢، من جامعة الأحفاد وكانت دكتوراه فخرية، وهي جامعة أهلية سودانية لها مكانة وطنية تاريخية، وإسهام أساسي في تعليم السودانيات، منذ وقت مبكر من القرن الماضي. وفي وطن غلبت على أهله حتى وقت قريب ثقافة الشفاهة، كان محجوب محمد صالح من رواد التفكير والتوثيق، حيث أصدر الصحفي السوداني العتيد عدة كتب طوال مسيرته، تكشف مدى انخراطه في الهم الوطني السوداني، ومحاولة تقديم قضاياه الحرجة والملحة بمنظور وطني متقدم، ومستقل وكانت هذه الكتب هي: تاريخ الصحافة السودانية التي أرخ فيها للصحافة السودانية ومعاركها، منذ بداية القرن، وكذلك أضواء على أهم قضايا السودان المركزية، وهي حرب الجنوب، وأيضا كتاب تحت عنوان مستقبل الديمقراطية في السودان، حيث استعرض التحديات التي تواجه معضلة التحول الديمقراطي في السودان، وبطبيعة الحال كان كتابه دراسات حول الدستور إدراكا رائدا من الرجل حول مسألة تدشين عقد اجتماعي جديد في السودان وضروراته الدستورية. وربما يكون من أهم إسهامات محجوب محمد صالح، على صعيد العلاقات السودانية المصرية هي ورقته التي قدمها في مؤتمر هام، عقد تحت عنوان العلاقات الثنائية بين مصر والسودان في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة بتسعينيات القرن الماضي، حيث قدم ورقة رصينة، ورؤية متقدمة بشأن هذه العلاقات، من حيث التحديات التي تواجهها، وآليات تجاوز هذه التحديات على المستويين الرسمي والشعبي. وفي تقديري، أن محجوب محمد صالح، كما قدم للسودان وأهله في حياته موقفا وطنيا نزيها، ومنزوعا عنه أي نوع من الهوى السياسي أو غيره، فإنه قد ساهم بعد غيابه الذي جرى في مطلع هذا العام بالقاهرة في تقديم السودان بصورة بهية في توقيت صعب، وذلك بمناسبة الاحتفاء بذكرى مولده، حيث التف السودانيون حول بعضهم البعض من مشارب سياسية واجتماعية، وعرقية شتى؛ لتدشين المناسبة في عدد من العواصم الإقليمية، وفي احتفاليات افتتحتها القاهرة قبل أيام وتتوالى خلال شهر كامل. هذه المجهود الأهلي السوداني ساهم فيه أسرة محجوب محمد صالح، وقامات وطنية سودانية من كافة المشارب الإيديولوجية السودانية، ومن كافة مهاجر الشتات السوداني، وكذلك رتل من رجال الأعمال المحليين، وذلك في نسيج وطني سوداني منظم ومتفاهم ومنجز. هذه الصورة البهية للسودان هي جزء من صناعة محجوب محمد صالح، حيا ومحلقا في السحاب، وهي صناعة أن يتبناها آخرون حتى يعود السودان البهي واللائق الذي نعرف*.