حواري مع الإعلاميّة و الرّوائيّة السودانيّة المتميّزة رحمها الله نعمات حمود ضمن العدد 520 من المجلّة العربيّة.
—————————
حاورتها: أسمهان الفالح/تونس
“الطيّب صالح عقدة العالم مع السّودان”
لا مراء أنّ الأدب بمختلف أشكاله الأجناسيّة نتاج فكر إنسانيّ متنوّع، و حصيلة رؤى مؤثّرة.
إنّه مسيرة و مسار تستعيدهما الذّاكرة الجمعيّة عبر أشخاص قريبين بعيدين على حدّ السّواء، اجتمعوا رغم ما يفرّقهم من جنس و لون و عرق و دين على توحيد الصفّ و لملمة الأمّة و قد كانت إلى شتات، لتنضوي تحت لواء اللّغة و الهويّة. فكيف نستسيغ اليوم قولبة الكتابات العربيّة ضمن أطر معيّنة تبعا للجنس أو البلد؟ أفلا يُعدُّ ذلك ضربا لوحدة الأدب و تمزيقا لكيانه و تجنّيا على منظومة بأكملها؟ هكذا تساءلت ضيفة “المجلّة العربيّة” نعمات حمود، مشدّدة على أنّ فكرة التّصنيف باطلة، لاسيّما إذا نظرنا إلى خلفيّاتها، مبرّرة ذلك بوجود تيّار من المدّعين يعلي من شأن الكتابة “الرّجاليّة” إن صحّ التّعبير، في حين يستهجن نظيرتها “النّسويّة” و يتّهمها بالقصور و عدم بلوغ مرحلة النّضج الكافية لأنّها تبقى حبيسة ذات التوجّه لا تعرف منه فكاكا: تظلّم من سلطة المجتمع الذّكوري القاهر و شكوى من الهجر أبدا لا تنتهي. فيتكرّر نفس المحتوى و يتمّ اجترار الأفكار عينها من نصّ إلى آخر، فقط يتغيّر اسم الكاتبة و شكل الغلاف.
و تضيف حمود: “صحيح أنّ هذا القول له و عليه، فقد ينطبق على فترة تاريخيّة محدّدة، و على نماذج من الكتابات مخصوصة لا ترقى إلى مصاف الإبداع، لكنّ التّعميم هنا سيسقطنا و لا ريب في المغالاة حدّ الشّطط، فلدينا كاتبات متمرّسات لمعن و تألّقن في مجالهنّ، و طرحن قضايا جريئة: فلسفيّة و دينيّة و سياسيّة، بفكر معاصر، و فرضن على الآخر احترامهنّ لما يتميّزن به من نباهة و نبوغ و أسلوب رصين. هنّ امتداد لجيل “عائشة عبد الرّحمن” و “مي زيادة” و إضافة نوعيّة له”. و قد كان للمرأة السودانيّة المغتربة بصمتها المتفرّدة في هذا الإطار، و هو ما سنتبيّنه عن كثب مع هذه الكاتبة المسكونة بالهمّ الثّقافي حدّ الصّداع.
الأسئلة و الأجوبة:
1.بداية كيف تقدّم نعمات حمود نفسها لجمهور القرّاء؟
نعمات حمود روائيّة و إعلاميّة من شمال السّودان أصيلة مدينة أم درمان، متحصّلة على بكالوريوس في اللّغة العربيّة والدّراسات الاسلاميّة من جامعة الجزيرة. صدر لي روايتان: (همس النّوارس) و(في ذاكرة القلب) ولي تحت الطّبع (من بعيد ..مرافئ الغربة ).
درستُ الصّحافة في كليّة الدّعوة و الإعلام بالسّودان، و أنا حاليّا مراسلة قناة النّيل الأزرق الفضائيّة السودانيّة، و موظّفة بحكومة الشّارقة، دائرة الثّقافة قسم الإعلام، ناشطة بالحراك الثّقافي بدولة الإمارات، و أواكب نشاطات الجالية السودانيّة بشكل خاصّ، فأنظّم العديد من الأمسيات الأدبيّة و أقدّم أبرز الفعاليّات عبر منصّات معارض الكتب و اتّحاد الكتّاب و بيوت الشّعر.
2.هل كان لتجربة الاغتراب التّي عاشتها نعمات حمود على مدار عقد و نيف الأثر الجليّ في كتاباتها؟ و هل كان ذلك واعزا للفعل الإبداعيّ أم كابحا له؟
الوطن قيمة داخل كلّ إنسان لايفارقه أينما ولّى وجهه، صحيح أنّنا قد نبتعد عنه بعض الشّيء لتحقيق ذواتنا في أماكن أخرى، إلاّ أنّنا نظلّ ندورحوله، نتحسّس كلّ ما ينتمي إليه، كلّ ما يشابهه، كلّ ما يعيدنا إليه ..تشحننا ذكرياته ويملأنا الحنين إليه وإلى مراتعه.. والسّودان حاضر في داخلي حيثما أكون وما أن أختلي بقلمي حتّى يكون أوّل سطوري، و هو في كلّ كتاباتي حاضر ..فهو استهلالي لكلّ عمل أقدّمه.
وبقدر المحبّة يكون الإبداع.
كيف تفاعل جمهور القرّاء و المثقّفين مع روايتك “همس النّوارس”، سيّما و أنّها تطرح قضايا جادّة تتغلغل في صلب النّسيج المجتمعيّ العربيّ و الإسلاميّ؟
“همس النّوارس” كانت حبيبة لقلب كلّ من قرأها، فقد لامست وجدان الكثيرين لا سيّما المغتربين منهم، كتبتها بصدق وجرأة لا متناهية، تهيّبتها كثيرا في البداية، ولكن الحمد لله أشعر بالرّاحة لأنّني وضعت خلاصة تجربتي بشجاعة بين رفوف مكتبات العالم لتضيء طريق الكثيرين في بلاد الاغتراب.
الصّمت ما بين روايتيْ “همس النّوارس” و “في ذاكرة القلب”، بم تفسّره نعمات حمود؟
بين “الهمس” و”ذاكرة القلب”، فترة انتظار و ترقّب الهدف منها الإفادة من النّقد و التّأسيس عليه لتطالع الرّواية الثّانية القارئ في لبوس متميّز يرقى إلى تطلّعاته.
قبل أن تكوني روائيّة أنت قاصّة، و لا ريب أنّ ذلك امتداد طبيعيّ لكلّ أديب، فكيف كانت النّقلة؟
كنت أجيد الحكي منذ نعومة أظفاري، وما أزال أشعر حدّ السّاعة أّنّ بداخلي امرأة حكّاءة تجيد تمثيل كلّ نصّ سرديّ. و قد أجدت التّعبير و تفوّقت فيه منذ المراحل الأولى من التّعليم الأساسي، فكتبت قصصا قصيرة لصديقاتي، وكنّ ينسبن شخصيّاتها و هنّ مستغرقات في ضحك عميق إلى فواعل حقيقيّة موجودة في محيطنا. و عن نفسي لم أجد عنتا في الانتقال من تجربة النصّ القصير إلى النصّ المركّب، ناهيك و أنّ الرّواية لا تعدو أن تكون قصّة طويلة مع الاختلاف في اعتماد تقنيات الكتابة و آليّاتها.
من خلال باعك الطّويل في مجال الصّحافة، هل ترين أنّ العمل الصحفيّ يضيف إلى الكاتب أم أنّه يقتل الحسّ الإبداعيّ فيه؟
العمل الصحفيّ يقيّد الكاتب و يحدّ من حريّته، فالنصّ الذّي يُفرضُ عليكَ كتابته في زمن معيّن لا ينبغي أن تتجاوزه، و في حدود كلمات مضبوطة يجب ألاّ تتعدّاها، يقتل عوامل الدّهشة و الإبداع لديكَ، باعتبار أنّ الكتابة حالة مزاجيّة تداهمكَ على حين غرّة كما المخاض، بينما يتحوّل مع الصحفيّ إلى وظيفة مملّة تقوم على الاجترار.
تقطع المسارات الايديولوجيّة عادة مع الأدب، و تقف منه موقف العداء، فهل يخدم ذلك الأدب أم أنّه يجعل الكاتب حبيس الرّقيب ممّا يقلصّ من حظوظه في الانتشار عربيّا و عالميّا؟
الكاتب ضمير وقلم و خيال. غير أنّ الرّقيب، هذا المفرد المتعدّد ( المجتمع، العادات، التّقاليد…) يحاصره من كلّ حدب و صوب، و يقلّص من مساحة الحريّة لديه، وإن لم يكن الكاتب شجاعا وجريئا لن يكون صادقا مع القرّاء ولا حتّى مع نفسه. إنّه النّفاق في أجلى معانيه يتبلور في نصّ مشوّه.
أم درمان مدينة تتّشح بتاريخها العريق و حضارتها الممتدّة، و تزدهي بأجوائها الصّاخبة. كيف أثّر ذلك في تكوين كاتبتنا؟
انا أمدرمانيّة النّشأة، تربّيت على الأدب والشّعر والمقاهي الثّقافية. نهلت من معين إبداعات عظمائها و استزدتُ. فخرجتُ إلى العالم في ثوبها القشيب. أم درمان العاصمة الوطنيّة وعاصمة الثّقافات المتعاقبة، ومنشأ لكلّ جهابذة الأدب و الفنّ و الفكر. السّودان ..أم درمان.. النّيل …أنا مدينة لها بكلّ جميل.
شهدت السّاحة الأدبيّة السودانيّة و العربيّة مؤخّرا طفرة في مستوى الكتّاب و الشّعراء، رغم محاولات التّضييق المتكرّرة. فهل يمكننا القول أنّ الأدب بات سلطة في حدّ ذاته؟
فتحت التّكنولوجيا آفاقا لاحدود لها، فكسرت قيد التّضييق، و تعرّف العالم إلى أسماء وازنة في مجال الشّعر و القصّة و الرّواية، ولكنّ الناس في بلدي يعانون تهميشا في شتّى مناحي الحياة ممّا ينعكس سلبا على نتاج المبدع الفكريّ و الأدبيّ بفعل انشغاله بتصريف أموره و تدبّر شؤونه اليوميّة.
كيف تنظرين إلى السّاحة الأدبيّة السودانيّة الآن؟
ظروف كثيرة تغيّب أهل الابداع؛ فإمّا أن تهاجر وتبدأ مسيرتك تأصيلا لكيان، وإمّا أن تنكبّ على كتاباتك دون أمل في أن تصل إلى المتلقّي لصعوبة النّشر و تكاليفه المشطّة فيصبح إنتاجك حبيس الأدراج يندثر بموتك.
و كيف تقيّمين حركة النّقد فيها؟
النّقد موجود ولكن ماهي الأعمال التّي يتوجّه إليها؟ ولمن ؟ وكيف؟..
هناك تغييب وتضييق وحالة إحباط تلازم المبدع السودانيّ منذ فترة أسبابها واضحة و معلومة للعموم. ولكن سيبزغ الفجر يوما، وسيرى العالم ما لا يتوقّعه منه.
رغم تنوّع الأصوات الأدبيّة في السّودان و جودة منتوجها، فإنّ السّرد السودانيّ لم يستطع فرض نفسه بعد في السّاحة العربيّة. فهل يعود ذلك إلى عدم قدرتنا على التخلّص من عقدة الطيّب صالح؟
لم نعش داخل السّودان عقدة الطّيب صالح، ولكن ربّما هي عقدة العالم معنا ..وضعوه مقياسا لنا فكبّلوا أصواتنا كي لا تصدح عاليا رغم أنّ أقلامنا منطلقة لا يحدّها أفق. وهناك آلاف الطيب صالح بالوطن غير أنّه لم تتح لهم فرصته ولم يجدوا حظّه.
التحقت نعمات حمود بالعمل بدائرة الثّقافة بإمارة الشّارقة منذ سنوات. حدّثينا عن تأثير العمل بهذا المكان ذي الخصوصيّة عليك ككاتبة وكذلك على الصّعيد الإنسانيّ؟
دائرة الثّقافة هي صانعة الحراك الثقافيّ جميعه، فقد أتاحت لي الفرصة لأجتمع بأهل الشّعر والأدب والمسرح والتّراث والإعلام، حتّى أنّك لتستشعر نوعا من الزّخم المعرفيّ و أنت تجالس دان براون وواسيني الاعرج وكتّاب البوكر و أحلام مستغانمي وسميحة أيّوب وسعاد العبد لله وأشرف عبدالغفور و غيرهم من الأسماء البارزة على السّاحة الأدبيّة و الفنيّة. لذلك أعتبر نفسي محظوظة لأنّني وجدت المكان الذّي لطالما حلمت به.
تقوم دائرة الثّقافة برعاية وتنمية العمل والنّشاط الثّقافيّ فى إمارة الشّارقة -عاصمة الثّقافة العربيّة- فكيف كان الحصاد الثّقافي لسنة 2018؟ و ما مردوده على أبناء الشّارقة و المقيمين؟ ثمّ ماهو المنتظر في السّنة الإداريّة الجديدة بعنوان 2019؟
الشّارقة منحتني الأفق المعرفيّ اللاّ محدود. هي إمارة الثّقافة العربيّة و الإسلاميّة و العاصمة العالميّة للكتاب لعام 2019،
ومشروع حاكم الشّارقة الثّقافي الشّامل امتدّ الآن إلى البلدان العربيّة والعالميّة …بيوت شعر في الوطن العربيّ وجوائز عربيّة بدول مختلفة وملتقيات للسّرد في أقطار شتّى .. فشكرا شارقة الثّقافة.. حالة نادرة من العطاء الثّقافي تنبع من سلطانها وينهل الجميع منها بلا مقابل فشكرا دوما للشّارقة التّي تشرق محبّتها ضوءا وحبّا وسلاما في داخلي.