بدأت فكرة إنشاء مدرسة تدريب الشرطة إلى العام 1910م، حيث كان ( مستر بلومبرغ) مسؤولاً عن حفظ الأمن بمديرية الخرطوم ، وقد أُخضع أفراد الشرطة في ذلك الوقت إلى تدريب عملي ونظري في مجال الأعمال الشرطية . وتواصلت جهود بلومبرغ بجهود ( مستر جون أيوات) الذي قدم إلى السودان عام 1924م لوضع تصوُّر لجهاز الشرطة بالسودان، ومن ضمن ذلك تدريب أفراد الشرطة ، وقد ارتبطت بإسمه فكرة إنشاء أول مدرسة لتأهيل وتدريب ضباط الشرطة، وتم افتتاح تلك المدرسة في عام 1925م بمدينة أم درمان . وكان اسمها مدرسة تدريب البوليس والإدارة عام (1925 _1937)، وكانت تخرِّج ضباط شرطة وضباط إداريين . ثم تم تغيير الإسم إلى مدرسة الإدارة والبوليس في العام (1937_1948) ، ثم تغيَّرت الفكرة لتختص المدرسة بتخريج منسوبين للبوليس فقط، وسُمِّيت بمدرسة البوليس في العام (1948 _1952) ، ثم تطوّرت المدرسة ورُفِّعت لكلية لتخرِّج ضباط بوليس حيث سُمِّيت بكلية البوليس في العام (1952_1981) ، ثم ضَمّت الكلية معاهد أخرى لتدريب الضباط وتغيّر الاسم إلى كلية الشرطة والمعاهد في العام (1981_1993) ، ثم إلى كلية الشرطة في العام (1993_2000).
بقيام جامعة الرباط الوطني في العام 2000 تغيّر اسم الكلية ليصبح كلية علوم الشرطة والقانون ، حيث أصبحت الكلية تقبل الطلاب من حملة الشهادة السودانية ويتم تخرّجهم بمؤهل جامعي في علوم الشرطة والقانون (درجة البكلاريوس)، ويتم قبول الطلاب عبر أمانة الشئون العلمية بالجامعة والشروط الفنية والمهنية لرئاسة الشرطة. في العام 2004 خرّجت الكلية أول دفعة من حملة البكالريوس في علوم الشرطة والقانون من بينها (10) طلاب من دولتي جزر القمر والصومال. وبعد تحويل كليتها لتكون ضمن كليات جامعة الرباط الوطن تم نقل موقعها من بري إلى سوبا.
منذ إنشاء كلية الشرطة وتاريخها الطويل تعاقب على إدارتها وعمادتها والتدريب فيها خيرة ضباط الشرطة الذين لا يسع المجال لذكرهم ، فقد حمل أولئك الأفذاذ كلية الشرطة فوق الأعناق وكانت المفخرة والتباهي بين سائر مصاف الدول العربية والأفريقية، وقد تخرّج في كلية الشرطة الضباط من دول الخليج وإثيوبيا وتشاد وإثيوبيا وجزر القمر وفلسطين وجيبوتي ، وغيرها من الدول الأفريقية ، وبدون فخر فمعظم قادة الشرطة الآن في تلك البلدان هم من صنع كلية الشرطة السودانية بامتياز ومازالوا يذكرون ذلك الفضل بعد الله للسودان ولكلية الشرطة.
كانت كلية الشرطة هي عنوان للضبط والربط والجد في كل مناحي برامجها منذ أن يطأ الطالب قدمه في أرض الميدان (الأحمر) وحتى التخرُّج. كانت كلمة عميد كليتها اللواء الراحل عبد الله عبد كاهن حاضرة، ومازالت ترن في الآذان، حيث كان دائماً يوصِّي ويُذكِّر قائلاً :
(الطالب لا يُطالِب) (الطالب لا يُطالِب) .
أي لا مجال لمجرّد سماع رأي الطالب ، فجسدُه وذهنُه كلاهما للتدريب فقط لا ثالث لهما . وكان الصوت القوى المدوِّي الذي تنفر منه حتى خيول الكلية عند سماعه.. صوت التعلمجي الراحل المقدم تاج السر الباترا، ذاك الأسد الصارم الحازم الحاسم طيلة فترة التدريب ، ومستحيل أن تراه مبتسم ، بل كانت قسمات وجهه توحي بالشر في الظاهر ، لكنه كان خير كثير مخفي ، عرفناه وفهمناه منذ أوّل يوم من تخرُّجنا.. إذ الموقف الوحيد الذي يهز مشاعره ويجعله يحن ويبكي ويدير وجهه للطلبة هو يوم التخريج ولحظات خروج الطلبة من الميدان بموسيقي “لن ننسى أياماً مضت” هنا يزداد الباترا نحيباً وبكاءاً وألماً على فراق شباب طُلّاب طبّق فيهم شتى وأقسى أنواع وصنوف التدريب والعذاب و “طوابير ذنب قاسية ” ولم يتفوّه أحدهم بكلمة واحدة ، بل حتى الطالبات اللاتي كنّ داخل تلك الصفوف لا يمللْن ولا يخذِلْن ولا يشكين ولا يبكين ولا ينتكِسنَ، بل كُنّ واقفات وسط الطلاب كالطود والعود ، وكأنّ لسان حالهن يقول :
“أبِشْروا.. زينب وراكم”.
ومن هنا أحيي دفعتي اللواء شرطة ابتسام عبد الرحيم والعميد شرطة حليمة الجندي وكل الأخوات من الدفع المختلفة أمثال محاسن التازي، وحفصة ، وآسيا، وإخلاص الفاضل، ومني زكي، وآمنة سكوتة، الدفعة (37). وزهرة فايد، وخضرا عباس، وإيمان محمود ، الدفعة (44) . وزينب أحمد، وعواطف قرشي، وصالحة ، ومني ، الدفعة (50). وغيرهن من العفيفات اللاتي لم تسعفني الذاكرة بذكرهنّ. واللاتي كُنّ بمثابة وراء كل عظيم وكل دفعة امرأة ، فقد كُنّ نِعْم الصمود والطهر والعفاف والجمود حتى التخرج رغم استفذاذات التعلمجية المقصودة “عشان التدريب”. وكُنّ نِعْم الضباط بعد التخرج والنجاح في الحياة العملية، ومازالت مثيلاتهن على الدرب سائرات أمثال الشامخة كنخل الكنوز الباسق ، العقيد شرطة اعتماد عبد الظاهر… فهنّ يشرفن الشرطة والمرأة السودانية في أبهى شموخها وكرامتها .
وتمضي السنين والأيام وتنتقل الكلية من بري حيث الميدان الأحمر الخرصاني وحيث ميدان لويس سدرة “أب شوك”…. إلى سوبا وتصبح جزء من جامعة تأخذ المحاضرات والتحصيل أكثر من وقتها في الإنضباط والتدريب الذي هو أصل الضابط .
وتمر الأيام…. ولأول مرة في تاريخها التليد تأتينا الأخبار المؤسفة الموجعة أمس من هناك … من قلب كلية الشرطة السودانية بأن طلاب الدفعة (70)ثانويين قد تمرّدوا عن التدريب بعد رفع مطالب عُدّة نخجل أن نوردها في هذا المقال والمجال .
وكان ما حدث فقد خرج الطُّلاب.. ولأول مرة في تاريخها يخرج من صلبها طُلّاب قبل أن يتخرجوا.. يخرجون وهم يجرجرون وراءهم أذيال الخيبة والهزيمة والندم . يخرجون من تلك المؤسسة العظيمة التي كم هويناها وعشقناها رغم السنين والليالي الطوال التي قضيناها بين إداراتها الداخلية الطويلة والباعوض يفعل فينا الأفاعيل ولا نحرُّك ساكناً، وحتى الساعات الأولى من الصباح.. وننصرف لبضع دقائق وصُفّارة الطابور الصباحي، ونعاود النشاط من جديد بكل حيوية ونشاط،وأشاوس الدفعة (37) و(35) المشرفين، كانوا لنا بالمرصاد ، بل كنّا نستغرب ونتعجّب في متى يذهب هؤلاء القادة لأهلهم وذويهم ووقتهم كله يلازموننا في الكلية؟!… وإن التفتّ يمنة تجد “هولاكو” الفريق محمد حسن إدريس، وإن التفتّ يسرة تجد “عوض بوت” الفريق عوض وداعة الله، وإن سرقت النظر خلفك تجد “أسد الكرتلة” المقدم أحمد المصطفى…. وغيرهم من الصارمين والتحية والتجلّة لمن هو على قيد الحياة والرحمة لمن فارق دنيانا ….. وهكذا حتى انقضت المدة بالكمال والتمام ، لم نتقدم لأرنيك مرضى واحد ندّعي المرض ولا لإذن ساعة واحدة ، ونشهد الله على ذلك، بل حتى الخروج لإذن لحضور مناسبات الأسرة كالزواج كان محرّم علينا. تحضرني تلك الطُرفة وكان السيد الفريق شرطة على فرح أمدّ الله في أيامه ، كان وقتها مشرف على إحدى الدفع وقد تم تقديم طالب له “مكتب” بأنه يريد إذناً بالخروج لحضور مراسم زواج شقيقته يوم الخميس ، وانتفض الرائد على فرح وقتها وغضب وهاج وبطريقته الساخرة قال للطالب : ( يَهْيَا باطل… نحن الواحد فينا يوم عرس اختو يمرق من القرية.. إنت عاوز تمشي تحضر قطع رحت اختك ؟!) … والتفت للتعلمجي وقال :(دوِّرو من قدّامي.. واحلق ليهو صلعة وحبس خميس وجمعة )!
بعد كل هذه العِزّة والأنِفَة والمجد والكبرياء يخرج علينا طلاب الدفعة (70)…… وبكل أسف ظل الرقم (70) وصمة عار في جبين الشرفاء الصامدين من كافة ضباط الدفع أجمعين .
لكن… ما شفي غليلنا القرار القوي الشجاع الذي اتخذه السيد وزير الداخلية الفريق أول شرطة الطريفي إدريس، أمس بفصل طلاب الدفعة (70) المائة خمسة وثمانين.وأتمني ألا يتم التراجع عنه، وليس نكاية في المنتسبين لتلك الدفعة ، لكنه كان قرار لابد منه للحفاظ على إرث نشأنا عليه ومشى عليه قبلنا من القادة الكرام العظام ألا وهو الإنضباط . والشيئ الذي نرجوه أن يغادروا في صمت دون ذكر أسمائهم حتى لا تقع عليهم العقوبتان وهم في بداية طريقهم ، حيث الفشل هو التجربة التي تسبق النجاح، وكل ما نتمناه أن يهيئ الله لهم طريقاً آخر للعمل والنجاح.
إنه وبفقد الطالب للإنضباط قطعاً يكون تدريبه ناقص 90٪.. كيف لا وهو الذي سيتخرّج غداً ويكون ضابط في قسم من أقسام الشرطة مسئولاً من مكتب بلاغات لم يغلق بابه في تاريخه منذ أن صنعه النجّار والحدّاد ،إلا في يوم واحد في عهد الاستعمار وهو “إضراب البوليس المشهور”… وأنّ سادتنا وقادتنا الأوائل علّمونا وحذّرونا بأن 🙁 إياكم والاحتجاج والتمرُّد والتوقُّف عن العمل الشرطي مهما فعل بكم السياسيون والحكام الأفاعيل ، ومهما أُنتقِص من حقوقكم.. فلا تتخلّوا عن واجباتكم طالما أنكم اخترتم هذا الطريق المحفوف بالمخاطر ، لأنكم أنتم أساس الحكم وأساس الإستقرار ، لأنّ مكتب البلاغات لو تم إغلاقه ساعة واحدة فسينفرط عقد الأمن ويخرج عتاة المجرمين من الحراسات والسجون ويعيثون في الأرض الفساد وتعم الفوضى البلاد ويقع الضحايا والقتلى ويعم النهب والسلب وينتشر الخراب وينعق على الحيطان الغراب وستُمحي من الوجود دولة اسمها السودان .
هكذا كُنّا… وهكذا نودُّ أن نكون، فهلّا استوعبت الدفع القادمة الدرس؟!.
لواء شرطة م
عثمان صديق البدوي
31 ديسمبر 2020