الخرطوم ترياق نيوز
انا لله وانا اليه راجعون. ننعى للشعب السوداني وللأمة العربية والإسلامية وفاة الأستاذ الدكتور الطيب زين العابدين (الذي وافته المنية صباح اليوم 14 مايو 2020 بالخرطوم). ونحن إذ ننعيه لا ننعى أستاذا معلما وإداريا مقتدرا وحسب، وإنما ننعى رجلا ظل يكافح من أجل الحرية والكرامة، ويجهر منفردا بالحقيقة، ويتحدث من ضميره فيعبر عن ضمير الشعب.
ولد الأستاذ الطيب بمدينة الدويم على ضفاف النيل الأبيض عام 1939، وانخرط في مهنة التعليم ابتداء بمعهد بخت الرضا العتيق، ثم التحق بجامعة الخرطوم في أواسط الستينات، وشارك في ثورة أكتوبر 1964 الشهيرة التي انطلقت من تلك الجامعة، ثم تخرج فيها بدرجة الشرف عام 1968، وابتعث للملكة المتحدة حيث حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة لندن عام 1971، ثم حصل من بعد على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كيمبردج عام 1975، وعاد للتدريس بجامعة الخرطوم (معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية).
انتدب الدكتور الطيب ليكون مديرا للمركز الأفريقي بالخرطوم في أواخر السبعينيات، وقد عمل جاهدا مع زمرة من زملائه لتحويل المركز الأفريقي من مدرسة ثانوية محدودة الأثر الى مؤسسة جامعية راسخة، واسعة الانتشار، ذائعة الصيت. ثم انتدب للعمل بالجامعة الإسلامية بباكستان حيث عمل نائبا لرئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية لبضع سنوات، ليعود أخيرا الى جامعة الخرطوم التي ظل وفيا لها حتى نهاية حياته.
كان الأستاذ الطيب أخا وصديقا لكاتب هذه السطور منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي. كان لقاؤنا الأول بالسجن العمومي بالخرطوم بحري (كوبر) عام 1975 حيث بقينا معا متجاورين لنحو من عامين كاملين. كنت يومذاك رئيسا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وقد اعتقلت في أعقاب أحداث المعارضة المتكررة التي كان يقوم بها الطلاب ضد نظام مايو. سألني عن الأسباب التي جعلت اتحادنا يصدر قرارا للطلاب بمقاطعة امتحانات الملاحق. شرحت ثم شرحت ولكنه لم يقتنع، كان “رأسه ناشفا” فاشتبك معي في نقاش سياسي ساخن لا مجاملة فيه. لاحظت فيما بعد أن واحدة من الخصائص الثابتة في شخصية الأستاذ الطيب أنه يميل بشدة الى الوضوح في الرأي، ويكره المواربة والمجاملة الفارغة. ذكر لي مرة أن والدته رحمها الله كانت تقول له: “إن كلامك يشبه الضرب على الركب”؛ أي أنه لا يتلجلج ولا يخشى من قول الحقيقة ولو كانت مرة. توثقت العلاقة بيننا فيما بعد، ولكنها علاقة لم تكن تخلو من “الضرب على الركب”، كان رحمه الله كتابا مكشوفا، يقول ما عنده، ويعترض على ما عندك، ولكن صدره يتسع لكل ما تقول. يؤمن بالديموقراطية قولا وعملا، ينفتح على الآخر ولو اختلف معه في المذهب أو في الدين، ولا غرو أن ارتضاه المسيحيون والمسلمون في السودان ليكون أمينا لمجلس التعايش الديني السوداني عام 2003
كانت له مشاركة قوية وفعالة في الحركة الإسلامية السودانية، وقد كان رئيسا لمجلس الشورى فيها في أوائل الثمانينات، ولكنه ظل يتباعد عنها وتتباعد عنه منذ أن شرعت قيادة الحركة في تجهيزاتها لانقلاب الإنقاذ، حيث اعترض عليه من حيث المبدأ، ولكنه ظل يناصح حكومة الإنقاذ حينا وينتقدها ويعترض على سياساتها في معظم الأحيان، وصار له عمود أسبوعي في الصحف نال شهرة واسعة لما كان يبديه من وضوح في الطرح وجرأة في القول (وقد جمعت تلك المقالات ونشرت في كتاب عام 2004).
كان الطيب يحب الوطن ويتوق لوحدة الصف الوطني ويكره التسلط. ذهبت اليه في منزله بالخرطوم بحري في عطلة من عطلات عيد الأضحى ومعي الصديق الدكتور خالد التجاني النور، تناقشنا طويلا في أحوال الوطن، ورأينا أن نصوب نشاطنا نحو مشروع سياسي وطني يتجاوز الحزبية الضيقة، ويتحول بالصراع السياسي من مجال المعادلة الصفرية الى مجال الديموقراطية التوافقية، ومن مجال الهدم والردم الى مجال البناء، ومن مجال السرية والتآمر الى مجال الشفافية والصدق والأمانة. وكانت ثمرة ذلك اللقاء أن شرعنا في انشاء “الحركة الوطنية للتغيير” في أكتوبر من عام 2013، فدعونا في بياناها التأسيسي: للتضامن بين جميع أبناء الوطن من أجل اصلاحه واعادة بنائه وتعزيز قدراته، سعيا نحو الاستقرار السياسي، والسلم الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية. وأشارتا الى قناعة الحركة بأن الانتماء للوطن يجب أن يعلو على انتماءات القبيلة والحزب والطائفة؛ وأن المصالح الوطنية العليا يجب أن تعلو على المصالح الفردية والفئوية؛ وأن “الانفتاح” بين التيارات والنخب السودانية خطوة ضرورية للنفاذ للعمق الجماهيري وتنظيمه ودفعه في اتجاه النهضة والبناء. وأوضحنا أن الحركة الوطنية للتغيير حركة منفتحة على الجميع وتتسع عضويتها لجميع التيارات والعناصر الوطنية المستنيرة التي ترفض الايديولوجيات الشمولية التسلطية التي تسير على نهج الانقلاب العسكري أو الانغلاق الفكري أو العرقي أو الطائفي. وكان الأستاذ الطيب أكثرنا حماسة وصبرا وتواصلا مع الآخرين حتى التف حول البيان التأسيسي العديد من المثقفين والسياسيين، وكان يمكن أن تمثل تلك الحركة رافدا قويا من روافد الإصلاح، لولا أن الأجهزة الأمنية لم تكن وقتها ترغب في اصلاح. ولما انطلقت ثورة ديسمبر الأخيرة كان من المناصرين لها، وظل يتابع أخبارها وهو يصارع المرض في مستشفيات بريطانيا.
كان الأستاذ الطيب ذا شخصية عصامية، يعتمد على نفسه لدرجة الغلو، ويتعفف عما في يد الغير، ولا يبحث عن شهرة. كنت أعلم أنه لا يستطيع أن يتحمل لوحده تكاليف العلاج الباهظة، فاستأذنته في أن يقبل مساعدة رمزية من بعض الأصدقاء، فقبل على مضض، وأصر أن يعرفهم حتى يشكرهم. وحينما حاولت أن افعل ذلك للمرة الثانية قال لي: شكرا، أنا لا أريد أن أحول تكاليف علاجي الى استثمار!! إنها الصراحة ذاتها التي عرفتها فيه، وأنه التعفف ذاته الذي لم يفارقه حتى فارق الحياة. كان في الأسابيع الأخيرة من حياته يحن كثيرا الى الوطن ويشفق عليه. حينما عاد من رحلته العلاجية الأخيرة قال لي أنه قد شعر براحة عظيمة وهو يرى جيرانه وأصدقاءه يحيطون به. تحدثنا عن إمكانية خروجه مرة أخرى لمواصلة العلاج فشعرت أنه غير متحمس لذلك، وكان بقول لي: نحن قوم أهل تصوف، أي أننا شديدي الايمان والتسليم بقدرة الله وقدره. وذهب الى ربه راضيا مرضيا.
اللهم أرحمه وأغفر له وأكرم نزله. اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره، واجعل البركة في ذريته، والهم أهله الصبر والسلوان.