X
    Categories: اعمدة

خالد الفكى .. يكتب.. (ودالمكى) برتقالة السودان التى خذلها الرحيق !

Oplus_131072

فى زمن الإحتياج والعوز الثقافي والفني رحل، أحد أشهر شعراء بلادي مخلفاً حزناً إعتمل فى نفوس السودانيين خاصة ذائقي شعره، كيف لا وهو برتقالة السودان التى خذلها الرحيق..وإنطفاء سراج محمد المكي إبراهيم خارج وطنه الذى عشقه ورسم لإجله أجمل اللوحات الشعرية، حيث لم يحظي بالتكريم الجنائزي الرفيع لامثاله والوطن يعيش بنينه الشتات والفرقة.
محمد المكي ولد في 10 مايو 1937 في مدينة “الأبيض”، وكرّس حياته للإبداع الأدبي والفكري، فكان أحد رموز الشعر السوداني الذي يعبّر عن هموم الوطن وآلامه وآماله، توفى عن عمراً تجاوز الـ 85 عاماً، وهو آخر القناديل المضيئة من مؤسسي (مدرسة الغابة والصحراء).
هذا وتعتبر مدرسة الغابة والصحراء التى انضوي اليها ود المكى حركة شعرية ثقافية تأسست عام 1962، مع الراحلين «النور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، ويوسف عيدابي، وعبد الله شابو»، وما زالت تُعد من أبرز تيارات الحداثة الأدبية في السودان، وترمز للتمازج الثقافي العربي والأفريقي في السودان، ورمزت للعرب بالصحراء ولأفريقيا بالغابة، وكانت خطاباً عميقاً حول قضية (الهوية السودانية).
شاعر الاكتوبريات..
ويقول مدير تحرير صحيفة التيار، الاستاذ خالد فتحي، سطع نجم شاعرنا الراحل محمد المكي إبراهيم في عصر النجوم اللامعة في الستينيات من القرن العشرين، فكان واحدًا من أشدها بريقًا ولمعانًا. أدرك ثورة أكتوبر، “أم الثورات الشعبية في بلادنا”، وهو يومئذ في نضارة الشباب، منفعلاً بوهج الثورة، فطرّز جيدها بفرائدها الفريدة. ولعلّه أبدع في الغريض والنشيد لثورته حتى سُمِّي بشاعر ( الأكتوبريات).
ويروي شاعرنا وفقاً لـ(فتحي) أنه أنشد لأكتوبر نشيدها الخالد “أكتوبر الأخضر”، وعندما تراجعت قليلاً وأصابتها النكسة، أنشد “إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي”. ويؤكد شاعرنا أنه استخدم مفردة “النكسة” في وصف تراجع الثورة قبل أن ينتشر استخدامها من قبل محمد حسنين هيكل لتوصيف حالة الهزيمة في يونيو عام 1967م. إذ رأى المكي أن ثورة أكتوبر مثّلت حدثًا عظيمًا جعل أفئدة المبدعين والشعراء تهفو إليها، إلا أن منجزها السياسي لم يكن بحجم التضحيات والآمال.
هذا ونُشرت لمحمد المكي دواوين: «أمتي» (1969)، «بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت» (1976)، «في خباء العارية» (1986)، «يختبئ البستان في الوردة» (1989)، إلى جانب مؤلفاته: «الفكر السوداني… أصوله وتطوره»، «بين نار الشعر ونار المجاذيب.
كما نال وسام الآداب والفنون 1977 من وزارة الثقافة والإعلام السودانية، واختير قبل أسبوع من رحيله من قبل لجنة المُحكَّمين بالاتحاد العالمي للشعراء لعام 2024 «شاعر السودان»، وهي لجنة مكوّنة من نقّاد أكاديميين كبار سودانيين وعرب، ويُمنح سنوياً لأحد الشعراء العرب.
مدير تحير صحفية التيار المهتم بالآداب والفنون بمضي للقول … ولم يكتفِ شاعرنا بتلك الأناشيد الفريدة فحسب، فقد أهدى هذا الوطن وهذا الشعب رائعته “جيلي أنا” التي صارت أنشودة لكل الأجيال. وكل تلك الفرائد تغنى بها صانع ربيع الأغنية السودانية الموسيقار محمد وردي، فزادها ألقًا على ألق وجمالًا على جمال.
ويرى فتحي بأن ود المكي إبراهيم أحد أبرز مؤسسي تيار “الغابة والصحراء”، الذي سعى إلى إضفاء مسحة سودانية على الآداب والفنون تميزه عن غيرها، ولم تكن تلك النزعة بعيدة عن رؤية اليسار الذي امتلك زمام شتى ضروب الفن والإبداع حينها، ويؤكد بأن أشعار محمد المكي إبراهيم تتميز على الدوام بالجزالة والإشراق والموسيقى الداخلية، والقدرة على نحت المفردات الجديدة والصور الشعرية المفعمة بالحياة والعبقرية والفرادة.
لم تقتصر أشعار محمد المكي إبراهيم على جزالة الألفاظ والموسيقى الداخلية فحسب، بل امتازت أيضًا بعمق المعاني وارتباطها الوثيق بهموم الوطن والإنسان/ هكذا يعتقد فتحي والذى يشدد على ود المكى كان شاعرًا ثوريًا يعبّر عن تطلعات الشعب السوداني في الحرية والكرامة، فقصائده مزجت بين الوطني والسياسي والإنساني، وجاءت محمّلة برمزية قوية تستلهم من التراث السوداني والموروثات الثقافية، قدرته على توظيف الرمز والمجاز بشكل متقن جعلت أشعاره خالدة في الذاكرة الأدبية.

المرأة الاسطورة
كما ان الشاعرة والاديبة، الأستاذة ابتهال تريتر ترى في مايتعلق بالقصيدة الانثي فى شعر ودالمكي،) المرأة أسطورة شعر المكي محمد ابراهيم وعبرها يرى كل شيء وبغيرها لا يرى).
تريتر تقول أن ودالمكي يتخذ الحياة شعرا وينسج تراكيبه العجيبة غارقا في الجسد والروح معا وربما تتصفح عرضحال مأساة كاملة على صدر أنثى وتجد فرمانا رئاسيا بين فخذين كما في قصيدته الصيداحة للخرطوم،وهي عالية عنده يجيد تشخيصها ويدرك مخابئها ويستنطقها وقد ارتفعت جمالا في خلاسيته المعروفة حتى قال( يابعض أقوالي أمام الله ) فما أقوى هذا وما أعظمه، وأترك لكم نماذج من تجاربه تجيب على هذا السؤال وواثقة من حصافة المتلقي مع خصوصية التوقيت.
في بلدي تنسرح الدروب للسما
على الرصيف ننثر السلام أنجما
رياحكم ماسخة عجوز
في بلدي نعطر الهواء بالمديح
روائح الطعام والضيوف من بيوتنا تفوح
والجارة التي يرف بالشباب وجهها الصبوح
يا عطرها الشفيف ينشق النهار من شذاه
أواه لو لمرة أشمه،
أضمه،
المسه،
أراه
أواه لو تفيد النازح الغريب آه
الشاعرة ابتهال تريتر الحائزة على جوائز اقليمية ومحلية تقول بأن ودالمكى أدار حوارات متعددة مفتوحة على كل التأويلات مع المرأة وقسمها في إسهاب وفصلها تفصيلا ولم يترك كل أنواع النساء في شعره فأنزلها كماهي في المجتمعات لذا غلبت واقعيته وصنع الدهشة والمفارقة وجعلها مادة غنية ،لم يركن للتجاويف ولم يكترث لسياط النقاد والمتطرفين ومحكمة الأدب لإيمانه أن الشعر مرآة مقعرة لكن صورتها خيالية في الواقع والحقيقة معا.
عذراء كقلب القمحة أمتنا،عذرا
الألسن والشهوات هنا عذراء
أجفان الناس مكحلة بالعفة والإغضاء
حتى صيحات اللذة عند عوا هرنا عذراء
المرأة حالة تتشظى وتتسق وتتوحد عند عظيم الشعر السوداني
ولا تكاد ترى فاصلا بين المفهومين اللذين شغلا المشهد أسئلة وتأويلا فالشعر عنده هو تعريف الحياة بكل محمولاتها
وأنا فارسها القادم من راس المدار
من بلاد تأكل الجوع وتقتات الدوار
جارحا يطعن حتى اللون والعطر
وفتلات الإزار
وهي وعد النار للغابات،وعد النسل
وعد الجوع والفوضى
ووعد الإصبع الدامي بأبواب النهار
تتمشى في أضاليعي حمياها فانهار جموحا وانبهار
أما في قصيدته (أصيح للخرطوم في أذنها) لم تكن جرأة الشاعر وقوة عباراته إلا لتغرس في الآذان ماتعانيه الخرطوم وهو يحمل التنبؤات لعقود قادمة وهو تشريح حقيقي للواقع الآن وكأنها مكتوبة في دفتر يومياتنا لخرطومنا الجريحة.
منذ اللقاء الأول
غرزت في لفات شعرها المهدل
أصابعي وقلت: أنت لي
عشيقة وأم
وحين فاتني الصبا
أسميتها بوهيميا المهذبة
وأصبحت تبوح لي
بسر عينيها الكبيرتين
تكشف نهديها وساقيها الصبيتين
أمام عينيا
سيدتي هأنا ذا أريح رأسي
فوق فخذيك القويتين
اخلع نعلي لكي أنام
ارآز بندقيتي لكي أنام
اغمض جفني-معا- لكي أنام
فلتطعميني لحمك الطيب
في الأحلام
ولتمنحيني عفة الفكر
(وليس عفة الكلام)
ولتحرسيني من عواء الباعة المحومين واللصوص.
أما خريدته ومعلقته (لا خباء للعامرية) وكما أسماها قصيدة للسودان أرجو أن نعيد قراءتها مرات ومرات بفرادتها وسطوع بيانها ودقة وصفها وشعريتها وتحقيقاتها الاستقصائية.
إنهم يمنعون التنفس في رئتيها
يمنعون الحيامن من سبحها،
يمنعون المدينة أن تستفيق.
طردوا العامرية عارية-
شبه عارية في الطريق
ثم جاءوا ليصطنعوا من دمي شارة الثأر مني ومنه
ثم في مجزوءة أخرى فيها يقول
سوف تندلق الحرب فينا وتأخذنا من بنينا
كيف نتركهم يدخلون عرين رجولتنا
أو عرين أنوثتنا كيف نتركهم يدخلونا؟
سوف نقترع الآن
هل تأخذين حروف الصبابة
تأخذين الهراوات تنهال فوق المواكب
أم تأخذين هواء الكلام؟
أم تأخذين حرير النظام
ثم يختمها
نبهيني إذا نهض الزهر بين الخنادق
والعشب قام،
وإذا عاد سرب القطا واليمام
نبهيني إذا صهل النهر ثانية
وتدفق يغرف من نفسه ويساقي نداماه
في غابة الطلح
أو غابة الخيزران
نبهيني إذا أزهر السيسبان
وإذا ظلل الغيم سهب البطانةِ
ألقى قذيفته السندسية في كردفان،
نبهيني لأنهض من رقدة الموت،
من شلل الخوفِ،
أنشر أجنحتي
ذاهبا
للبلاد التي تتراءى لنا في المنام
وتختتم تريتر قولها بأن المكي لم يكن شاعرا أو سفيرا أو كاتبا عاديا، ( المكى) هو الشعر يمشي على ساقين وهو الذى يجعلنا ندرك أن المرأة القصيدة وأن القصيد إمرأة.
الأنسان الأسمر
الناقد الفني الصحفي الاستاذ الزبير سعيد يفيد بإن الوطن كان حاضرا في وجدان الشاعر الكبير محمد المكي ابراهيم قبل أن يتجلى ذلك في قصائده التي مزج فيها بين العاطفة الوطنية والعاطفة الوجدانية كأنما أراد أن يقول لنا أن عشق الوطن بصدق لا ينفصل عن عشق ذلك الإنسان الاسمر.
ويوضح سعيد أنه عندما كتب ودالمكى منفعلا بثورة اكتوبر المجيدة انطلق من رؤية ابداعية مغايرة وطرح قضايا الوطن بمفهوم جديد وبعيد عن الهتافية كما لم يسيس قصيدته بشكل صارخ وأنما عمل على الانطلاق من مفهوم يعطي الابداع حق قيادة مسيرة البناء والتأسيس لمباديء وطنية تجعل شرف الانتماء للوطن يقوم على أن تكون إيجابيا تجاه القضايا الوطنية الكبيرة
لقد ربط الشاعر محمد المكي ابراهيم بين شهر اكتوبر وبين اللون الاخضر في دلالة عميقة لمفهوم الثورة والتي عنده تتجاوز هتاف الحناجر إلى كيمياء الإنتاج وتحويل الشعارات إلى قرارات تلامس عصب قضايا عامة الناس وتعمل بجدية على تحويل أحلامهم إلى واقع ملموس
وارتبطت رؤيته الشعرية بالتحدي والإشارة بذكاء إلى العمق الافريقي للهوية السودانية دون أن يقلل من أثر وتأثير البعد العرب، لقد انتمى الشاعر محمد المكي ابراهيم لفكرته وانتصر لها وظل بدافع عن تلك المباديء حتى آخر لحظة من حياته، فقد ولد مبدعا وعاش ملهما ورحل مؤمنا.
ود المكى تخرج من جامعة الخرطوم، حيث درس الأدب العربي، ثم اتجه إلى كتابة الشعر والنقد الأدب، ويمثل رحيله خسارة فادحة للساحة الأدبية السودانية والعربية، إذ كان رمزًا للخيال الشعري الأصيل. فقد أضفى بجمال كلماته على آلام الواقع آمالًا تُنعش الأرواح، وستظل أشعاره تردد صداها في وجدان الشعب السوداني وفي قلوب محبيه.