سِمةُ ھذه الحرب ھي تَداخلُ الأطرافِ فيھا، وتَعددُ البواعثِ لھا، وتَلونُ الوجوهِ والأقنعةِ وراءھا.
وبالتالي فإنھا من نوع الحروب التي يَصعبُ أن تقرأ من وجهٍ، أو من زاويةٍ واحدة.
تُري لما كانتِ السَماءُ كالحةً ھنا تُلبدھا غيومٌ مُظلمةٌ؟، وسُحبٌ كثيفةٌ داكنة تعدو بھا رياحٌ ھوجٌ بلا توقف، والي حيث لا مستقر، اذ لم تعد السماءُ ھنا زرقاء كما كانت، أو كما ينبغي أن تكون.
“الأسود” يُعانق عنان السماء، تَھطلُ السُحب الداكنة كما يحلو لھا مطرا أسود القطرات.
قطرات سوداء تملأ الأفق والفضاء، تتساقط علي الرؤوس كبيرھا وصغيرھا، علي بيوت الناس، وعلي الأعيان المدنية، وعلي ثكنات العسكر، وإرتكازاتھم في ذات الوقت.
لا تترك “تاتشرا” شاردة، ولا تغادر “مُسيرة” واردة.
يبدو كأن من لَوحٍ في مكانٍ قصي، يَدُ القُدرةِ قد بدأت تَمحو بھذا القَطر الأسود، عن كلِ ھذه الأمكنة وقاطنيھا، آثار حرب لا ناقة لھم فيھا ولاجمل.
ثم لتُثبت عليھا ولأھلھا من بعد، ما شاء من بيده كتاب المحو والإثبات، من إثبات.
إنھا كوارث بدا وكأن بعضھا بات يأخذ برقاب بعض، السُيول والأمطار كارثة، والجُوعُ كارثة، والأوبئة والأمراض الفتاكة كارثة، فضلا عن كارثة الحرب وتداعياتھا الإنسانية، وما ترتب عليھا من نزوح ولجوء غير مسبوق.
بما يؤكد ويجسد ويترجم حرفيا ھكذا معني ان المُصائب لا تأتي فرادي، إنه ضَربٌ من تَشابكٍ يَتسعُ رويدا، رويدا، لكي لا يفلت من عقال أخذه ظالم، وھو بطبيعة حاله أخذٌ أليمٌ شديد، لابد أن يستمر الي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فقد قال من لا ينطقُ عن ھوي: «إن الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته».
ثم قرأ: (وكذلك أخذُ ربِك إذا أخذ القُرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
بيد أن الله إذا أراد إنفاذ أمر كھذا سلب توا كل ذي لُبٍ لبه، الي حين إكتمال نِصاب الأخذِ المُرتجي.
المھم فالجوع كحالةٍ أصدقُ أنباءا من كل بيانات وكالات الأمم المتحدة ومنظماتھا.
اذ أن الأخذُ بالجوعِ أشّد إيلاما من سواه، فللجوعِ صوتٌ مُؤلمٌ حاد النبرة، يصدر دائما من غورٍ سحيق، يؤرّقُ الأجفان، يَطردُ الكري، يَغضُ المضاجع، يَصدرُ أول ما يصدر ويُسمعُ من “قرقرة” إمعاواتُ الضحايا الغليظة والدقيقة الخاوية.
ھذا الجُوع وھذه المآسي المُركبة التي أخذت بتلابيب الناس، وضيقت الخناق عليھم من كل جانب في ھذه البلاد، ربما ھو ما حرك جنودا من جنود ربك، لبناء تحالف “متحالفون” علي مقربة من أعالي جبال الألب، تحالف عنوانه الأبرز “إنقاذ الأرواح” و”إحلال السلام”، علي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السويسري، والمملكة العربية السعودية، وجمھورية مصر، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة.
تحالف بإسم: (المجموعة المتحالفة من أجل تعزيز إنقاذ الأرواح، والسلام في السودان)
(ALPS Group).
وبالمقابل فإن ّ موقف دعاة الحرب وإستمرارھا من أھل السودان، يذكرني بوصف شاعر عربي لأمثال ھؤلاء: “بأنھم أحفاد الشياطين، المساكين، المجانين، الذين كلما رأوا حلماً جميلاً، لقّنوا الببغاء شعر الحرب”.
المھم يبدو إنّ رجالاً تحت السلاح أو وراءه ما زالوا أسرى لحالة الحرب اللعينة.. لا يرون من الدنيا على سعتها الكبيرة سوى ما يُتيحهُ ثُقبٌ صغير بمنظار بندقية، يقيسون من خلاله المسافة بين الوجود والعدم.
فالبندقية آلة جافّة عجفاء، صنعها الإنسان لكي تشرب من دمه.. قبل أن يُوثِّق شاعر لولع الإنسان بآلات الحرب قائلاً منذ عهد بعيد: (كلما أنبت الزمان قناةً.. ركّب المرء في القناة سِناناً).
أما البندقية الحديثة فأتصور أن من شأنها أن تحنِّط العقول، وأن تُحاصر القلوب، وأن تُجفِّف المشاعر الإنسانية النبيلة، لتحيل حاملها في مُتلازمة غريبة إلى كائن مُتوحِّش مُتعطِّش للدماء، يقطع الرؤوس، ويبقر البطون، ويأكل الأكباد والأحشاء.
فمتي تَوهّم المُسلّحُ أنه يستمد قيمة وجوده من سلاحه فقط، تُصبح حياته من ثَّم جحيماً يمتد بخطرهِ لمن حوله ومن هم في مُحيطه.
هذه الحالة الغريبة التي أبتلينا بھا لنحو عام ونصف، ھي حالة أضحي فيھا السلاح بإمتياز أُوكسجين المُسلّح.
لكن المؤكد ھو: إن مَن لم ينتصر على نوازع الشر والعدوان المُستبد بداخله، لن ينتصر أبداً على قتلاه في قُبُورهم، ناھيك عن ما زالوا من الناس علي قيد الحياة.
إذ أنّ نشوة الإنتصار على الآخر بقتله.. نشوة زائفة سُرعان ما تنقشع وتتبدّد كفقاعة في الهواء، لا محالة يعقبھا ندم لا يقل عن ندم قابيل بعد أن قتل أخاه ھابيل.
وبالتالي أقول: علي من تفترسهم هواجس الحرب في صحوهم ومنامهم، ومن يتحسّسون مُسدساتهم كلّما حلّق فوقهم سرب حمام.. عليهم التفكير بمُزاولة الحياة دُون قَتلٍ.
وأن يتأملوا نصحا قَيِّما أسداه الشاعر محمود درويش لأمثالھم من ھواة المَقاتلِ والحروب في كل مكان بقوله: “وأنت تخوض حروبك فكِّر بغيرك.. لا تنس مَن يطلبون السلام”.