السودان الذي يصطرع اليوم علي أرضه أعتي الأشرار، ظل طوال تاريخه بلدا متقلب الأطوار.. يصعب عند كل منعرج إدراك أو تصور على اي شقيه ينقلب.
كما ان شعبه لخصائص تتصل بجيناته الوراثية، وبجذور تكوينه الاولي.. ظل دائما شعب “صعب المراس” قادر علي صنع المفاجآت المربكة، وعلي قلب الموازين، وقلب الطاولات علي رؤوس الطغاة والفاسدين المستبدين.
فشعب السودان في الحقيقة، شعب، يصعب التنبوء بتصرفاته، وحركاته وسكناته علي الدوام، وإن تجاذبت بعضه تجاه بعض أحيانا أھواء التحيزات والعصبيات، إذ خضع ھذا الشعب في بعض الأحيان لضرب من الإستقطاب والإستقطاب المضاد، تحت تأثير دعائيات منظمة تغذي روح العداء بين بنيه، وتنشر سموم الكراھية والبغضاء بين مكوناته.
فقد درجت حركة الإسلام السياسي المخاتلة طوال تاريخھا القريب، كلما ألمت بھا بوادر خلاف أو شقاق داخلي، الي التبرقع والتدثر بأقنعة مضللة ذات بريق، علي رأسھا قناع الدين الذي أھتري بين يديھا لكثرة وسوء تعاملھا الممتھن لھذا الدين، الذي اختزلت دوره في كونه قناعا مقدسا لا أكثر ولا أقل، يصلح فقط لتبرير وجودها وإستمرارھا في الحكم.
يحدث ذلك فضلا عن لجوئھا من حين لآخر الي سلاح التھييج العاطفي، بدعاوي الحرص علي السيادة والكرامة الوطنية، تلك المعاني التي ھي أبعد ما تكون عنھا، لعدم إيمانھا المطلق أصلا، بالمفاھيم التي نشأت عليھا الدولة القطرية والوطنية الحديثة.
وبالتالي فإن ھذه الحركة الحربائية لا زالت تخوض الي يومنا ھذا حربا تمويھية تضليلية بإمتياز حول العقول وفيھا، ترمي لإيھام أكبر قدر ممكن من الناس، بأنھا تحارب من أجل بقاء وطن، أضاعته ھي، ومزقته، بل ودمرته حقا لا مجازا، في غضون خمس وثلاثين عاما، ھي سنين ملكھا العضوض.
المھم من هذه النقطة بالذات نشأ تناقض فاضح عبر عنه الروائي الراحل الطيب صالح جاء في صيغة ھذا السؤال المُحيَّر: “لماذا يحبونه، وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مسخّرون لخرابه؟”.
فھؤلاء الإسلاميون الذين تتملكھم شھوة تغيير العالم وفق تعبير الراحل “د. منصور خالد”، يكرهون الأوطان التي لا تقبل خدمة أهدافهم البعيدة، التي ليس من بينها في الواقع خدمة تلك الأوطان نفسھا، التي إستباحوھا، ثم أباحوا إراقة كل دماء شعوبھا، لكي يستعيدوا لدينھم “الدموي” المتوھم عزه ومجده، حتي لو بزج شعب مسالم أعزل كشعب السودان، في اتون حرب لا تبقي ولا تذر، إنتقاما من جرأته علي أن يثور بوجه نظام تصور قادته وسدنته، أن واجبھم المقدس لا ينبغي أن ينتھي، سوي بتسليم أمانة الحكم لسيدنا عيسي المسيح حال نزوله او عودته المرتقبة.
لكن للحقيقة فإن ھؤلاء الإسلاميون يحبون أوطاناً من نوع خاص، أوطانا تذعن تحت أيديهم لأداء أدوار المنصات والرافعات، التي ينطلقون منها نحو أهدافهم التمكينية الخفية، ھذه الأھداف التي لا تعرف حدودا تقف عندها.
أوطانا ينطلقون من خلالھا الي مبتغياتھم من ذات نقطة عدم الاعتراف بمبررات وجودھا.
أوطانا حكموھا أو سعوا لحكمھا بما يناقض كونھا دول تقوم علي قاعدة ومبدأ المواطنة المتساوية بلا زيادة ودون نقصان.
المھم وفق قاعدة اوردھا غوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” تقول:
“من يستطيع إيهام الجماهير يصبح سيدًا لهم، ومن يحاول إزالة الأوهام عن أعينهم يصبح بالمقابل ضحية لهم”.
تبقي ھذه ھي صورة ما يجري وما يدور حتي ھذه اللحظة، من معارك لاغتيال الشخصيات الوطنية الأكثر حرصا علي انھاء الحرب، بشيطنتھا تارة، وشيطنة مشروعھا الرافض للحرب تارة أخرى.
لكن ھيھات.. ھيھات، فأستطيع أن أقول: أن العاطفة كالبورصة، تعلو وتهبط، بيد أنها لا تستقر أبداً علي حال، فدغدغة المشاعر، وإستثارة العواطف، ھي حيلة العاجز دائما، لا يلجأ اليها إلا من قعدت به قدرته عن فعل شيء حقيقي ملموس.
بل أتصور أن إنتهاج أسلوب التهييج العاطفي كوسيلة لقمع ھذا الرأي الرافض للحرب، سيصبح مھما بُذلّ فيه من جُھد أسلوباً عقيماً، لا يجدي نفعاً لمن بَذل، ولا يمنع ضرراً بليغا سيقع علي ھذه الحركة نفسھا لا محالة.
ھذا الخسران المبين سيقع علي ھذه الجماعة المتھافته، رغم أنھا قد أختارت الطريق الي عواطف الناس، الذي هو أقصر طريق يمكن أن يفضي مباشرة الي نوع من التفاعل سريع الحدوث، والذي ھو بالطبع سريع التلاشي كذلك.
فالمدخل العاطفي، مدخل تعبوي ظرفي مؤقت، لا يصمد كثيراً، أمام الحقائق الدامغة، والمصالح المؤكدة.
وبطبيعة الحال فلو أن تعارضاً نشأ علي الأرض، بين الواقع المرير والرغبات الحالمة، فإن السيادة تبقي دائماً لما يفرضه الواقع علي مرارته، لا لما يفترضه التفكير بالرغبات علي حلاوته.
إذ كلما أتسع البون بين ما هو واقعي وممكن، وما هو خيالي وبعيد، إتجهت بوصلة الأحداث وأنحازت بشكل مباشر الي ما هو عملي علي حساب ما هو متوھم.
فالأمنيات العالية، والشعارات البراقة الخلابة، تظل معلقة في الهواء، لا تمشي ولا تحلق، لطالما أنها بلا ساقين ولا جناحين.
فالمؤكد إن كل من يفقد صلته بواقعه ومحيطه، وما يجري حوله، يفقد بالحتم فرص بقائه وإستمراره، أو علي الاقل إمكانية تشكيل واقعه السائل بين يديه كما يريد.
فالحقيقة تقول: ليس بالإمكان لكائن من كان، العيش في محيط أحلامه الوردية، وتصوراته الهلامية دون فعل ھو لا يملك أدواته، ودون تعاطي إيجابي مع المعطيات العملية التي تؤسس لهذا الفعل في النھاية.
فلكل شيء في هذه الدنيا العريضة مقابل وثمن، إذ ليس ثمة شيء بالمجان علي الإطلاق، والأستعداد لدفع الثمن مقدم ھنا علي تحصيل المقابل بالضرورة.
لكن صحيح أيضاً أن لبذل الثمن كبر أو صغر، مشقة لابد منها، يجدها المرء في نفسه، وإن قبع يراوح مكانه ھكذا، بين مرارة الواقع وحلاوة الوھم.