ً
في الحقيقة لا يدري المرء من أين يبدأ، أو كيف يبدأ..، فكل ما يُكتب أو يُنشر أو تجود به القرائح والأقلام لا يمكن أن يصف بدقة واقع الحال في غزة الجريحة، ولكن تاريخ السابع من تشرين أول/ أكتوبر لعام 2023م لم يكن حدثاً عاديًا في تاريخ القضية الفلسطينية، ولقد غيَّر هذا التاريخ مجرى الحياة في قطاع غزة، وكان له أثرٌ عظيم على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وربما يظل أثره ممتدًا لسنوات طوال، ولعدة أجيال متعاقبة، إذ إن الحياة بعد السابع من أكتوبر جعلت من النسيج الاجتماعي الفلسطيني الغزّي ممزّقا ومُشوَّهًا، بفعل العديد من الأزمات والتحديات التي تواجه الأسرة الفلسطينية التي باتت تواجه معاناة يومية روتينية قاتلة في ظل صعوبة الحصول على أدنى مقومات الحياة في خيام النزوح ومراكز الإيواء المكتظَّة بالنازحين المكلومين والمعذبين، الهاربين من وطأة الصواريخ وأزيز الرصاص والقذائف وهدير الطائرات التي لا تفارق سماء غزة للحظة واحدة، ففي خيمة النزوح الواحدة نجد عشرة أشخاص وربما أكثر من ذلك، وفي غرفة الإيواء (في المدارس والعيادات) نجد المئات الذين صاروا بلا مأوى بعد أن دُمِّرتْ بيوتُهُم، أو أُحرقت أو تعرضت للهدم الجزئي أو الكلِّي، أو لربما تعرضت للسطو والسرقة، وجلّهم من النساء والأطفال والشيوخ الذين تقطّعت بهم السُّبُل، وصاروا يتقاسمون الهموم والمعاناة مع بعضهم، ويعيشون كل تفاصيل الحياة دون أيّ اعتبار لخصوصية كلٍّ منهم..، حيث شاهدنا كيف ينتهز أحدهم الفرصة لتغيير ملابسه في ظروف حرجة وصعبة منتظرا ومنتهزا فرصة مغادرة الآخرين للغرفة، وفي كثير من الأحيان كنا نشاهد الطوابير التي تصطف منتظرة الدور في دخول الحمّام، علمًا بأنه حمّام عام يفتقر للنظافة وللبيئة الصحية، بسبب عدم توفر المياه في مراكز الإيواء، ناهيك عن قلة الدواء وندرته، وكذلك الأمر بالنسبة للغذاء والملابس، وكافة مستلزمات المعيشة، كل ذلك ترك آثارًا بالغة الخطورة على المرضى وكبار السن والأطفال، وفي شمال غزة على سبيل المثال ارتقى حتى الآن ما يزيد عن 25 شهيدا بسبب سوء التغذية.
وفيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية التي روّجت لها الكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية، والتي يتم إسقاطها من الجو أو إدخالها من البرّ عبر الشاحنات؛ فهي أكذوبة كبرى، وفضلاً عن كونها لا تسدّ الحدّ الأدنى من متطلبات المجتمع الغزّي المحاصر والمنكوب، فقد جعلت الآلاف من الغزيين- في مشهد بائس ومهين- يركضون نحوها هربًا من المجاعة الخانقة، مما تسبّب في وقوع حالة من الفوضى، وانعدام التوزيع العادل لمن يستحقها، كما أنه خلق ظواهر سلبية غريبة على المجتمع الغزّي كالسطو المسلّح عنوة، حيث تسبب ذلك بسقوط الكثير من الضحايا ما بين القتل أو الإصابات المتوسطة والخطيرة، حيث يقوم أولئك اللصوص بنهب تلك المساعدات وبيعها في السوق السوداء، بأسعار تفوق الخيال، فمثلاً كيلو السكر بيع بحوالي 30 دولار، أما الأرز فقد بيع الكيلو الواحد منه بما يزيد عن 20 دولارا.
انعدام الأمن بعد أن رضينا من الغنيمة بالإياب:
إن نعمة الأمن والاستقرار صارت حلما بالنسبة لأبناء شعبنا، وفقدان الأمن هو أولى المصائب التي واجهت شعبنا بعدما حدث في صبيحة السابع من أكتوبر، عندما نفّذت الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حماس ما أطلقت عليه اسم “طوفان الأقصى” لتبدأ غزة منذ ذلك التاريخ المشؤوم فصلاً جديدًا من فصول المعاناة التي لا تنتهي في كافة مناحي الحياة، بدءًا بانعدام الأمن، ولنا أن نتخيل مقدار الهلع والخوف لساكني تلك البيوت التي أصبحت تتراقص من شدة القصف، الذي جعل الشظايا تنتشر كالمطر في كل مكان، حتى صار الإنسان يبحث داخل منزله عن ركنٍ آمن أو زاوية ربما تكون أكثر أمنا من غيرها، وسط بكاء النساء والأطفال، وسماع دويّ الانفجارات في كل مكان، الأمر الذي ينتج عنه دمار البيوت والمساجد والمباني المجاورة، فضلاً عن تطاير الزجاج والنوافذ وخزانات المياه وخطوط الكهرباء، لا يعرف الشخص متى سيسقط الصاروخ أو القذيفة وأين!! لقد أضحى مهددا في كل مكان، وصار الموت يحيط بالمرء، ويقترب منه ومن أطفاله وأهله في كل لحظة، وبات شبح الفراق يلوح في كل بيت وشارع.. في الواقع لقد هدّت القطيعة المؤلمة شعبنا، وأظلَّته الهُموم كالغمامة السوداء، وأذابتهُ الأحزان والكُرَبُ المتراكمة.. وبقي لوحده في مواجهة قسوة الزمان وألاعيب السياسة ومكرها ..، لقد انقلب الطوفان حميما وغسّاقا فوق رؤوس الأبرياء من شعبنا الذين لا حول لهم ولا قوة ..، والذين صارت حياتهم مفعمة بالألم، ومجبولة بالقهر، ومسكونة بالدموع والآهات.. فهم أناسٌ استوطن البأس واليأس نفوسهم، بعد أن تكاثرت عليهم الأوجاع والهموم في زمن الرمادة ..
محنة التهجير عندما تضيق الأرض بما رحُبت:
يقوم الجيش الإسرائيلي عادةً بإنزال منشورات تحذيرية عبر الطائرات على معظم المناطق في قطاع غزة، حيث يُطلب من السكان إخلاء مناطق بعينها بدعوى أنها مناطق قتال خطيرة يُحظر تواجد المدنيين فيها، وعليهم أن يتوجَّهوا إلى مناطق أخرى آمنة، ونشير هنا إلى أن الكثير من أولئك المهجرين تم قصفهم وقتلهم حيثما حلّوا، علما بأنه ليس هناك مكان آمن في كافة أرجاء قطاع غزة، وقد أدّت مأساة التهجير إلى تقطيع أواصر العلاقات الاجتماعية بين سكان القطاع الذين حُرموا من الاتصال والتواصل وانقطعت أخبارهم عن محبيهم والمقربين منهم، وذلك على إثر قطع الاتصال الهاتفي والإنترنت..، وقد ازدادت المعاناة بعد أن تمّ فصل شمال القطاع عن جنوبه إثر بدء العملية العسكرية البرية بعد حوالي عشرين يوما من بدء الحرب الطاحنة المفروضة على غزة، بل لقد أصبح التواصل بين العائلات والأسر الفلسطينية أُمْنِية يتمناها أهالي غزة الذين حُكِم عليهم بالعزلة الكلية عن كافة أرجاء المعمورة، فضلا عن الأقارب والأصدقاء والجيران ..، كما أن معظم أبناء العائلات أصبحت لا تعرف شيئا عن مصير أبنائهم، وماذا حلّ ببيوتهم ومنشآتهم وممتلكاتهم..‼، وصار من المألوف أن تصادف رجلاً أو امرأةً باكيةً هائمة على وجهها، تبحث جاهدة عن شخصٍ قادم من منطقة سكناها، لعله يعرف شيئا عن بقية أفراد عائلتها أو ما الذي حل ببيتها ..، ولقد حاول الكثيرون العودة مخاطرين بحياتهم وأرواحهم، ولكنهم تعرضوا لإطلاق النار المباشر من قبل آليات الاحتلال وقناصته المتربصين في كل مكان، ولم يسلم منهم حتى المؤسسات الإغاثية الدولية، كالأونروا والهلال الأحمر والصليب الأحمر والمطبخ العالمي.. وغيرهم
ولنا أن نتخيّل مقدار المعاناة لأبٍ لم يتمكّن من رؤية أبنائه الشهداء أو الجرحى فلم يودعهم، ولم يشارك في دفنهم، وآخر يجهل مصير زوجته أو أمه، وبعد معرفته بشق الأنفس لمصيرهم يقف متحسِّرا؛ لأنه لن يتمكن من توديعهم قبل مواراتهم الثّرى في ظروف قاسية جدا، بعد أن تحولت المرافق العامة كالمدارس والمستشفيات والعيادات الصحية إلى مراكز إيواء تضم الأحياء والأموات الذين تم دفنهم في مقابر جماعية عقب منع الاحتلال دفنهم في المقابر العامة، علما بأن الكثير من المقابر الموجودة في القطاع لم تعد تتسع لأعداد الشهداء الهائلة الذين صاروا يتقاطرون عليها وفودا لكثرة المجازر التي ارتكبها المحتل بحق الأبرياء في غزة المكلومة التي ما زالت تدفع ثمن تخاذل القريب والبعيد بحقها .. ولا يمكنني أن أنسى المعاناة التي واجهها أخي وزوجته وأبناؤه الأربعة بعد تهجيره ونزوحه إلى منطقة خانيونس جنوب القطاع، والذي سكن في المرحلة الأولى في إحدى مدارس الإيواء مشاركًا لعددٍ من العائلات من سكان خانيونس في غرفة صفية واحدة، حيث لا ماء ولا غذاء ولا دواء ولا حتى متسعا كافيا له ولزوجته وأبنائه، إذ يضطر هو شخصيا للخروج من المكان ليترك فراغا لأحد أبنائه القاصرين ليجلس مكانه..، وقد تحدث لنا عن الأمراض والأوبئة التي انتشرت في المكان بفعل الاكتظاظ، إذ كانت الغرفة الصفية الواحدة يقطنها ما يزيد عن سبعين أو ثمانين شخصا في معظم الأحيان ..
ولم تقف المعاناة عند هذا الحد؛ إذ تم تهجير أخي وعائلته مرة أخرى إلى رفح في أقصى جنوب القطاع، حيث تفاجأ بالأسعار الخيالية لثمن خيمة الإيواء – وهي خيام جاءت من خلال تبرعات من دولة قطر- حيث وصل ثمن الخيمة الواحدة إلى تسعمائة دولار أمريكي، ثم استمر مسلسل النزوح لينتهي به المقام مع الكثيرين من أبناء شعبنا بجوار معبر رفح المغلق على الحدود المصرية، حيث مُنِع اللاجئون الذين تقطعت بهم السبل من العبور باتجاه الأراضي المصرية في منطقة سيناء الحدودية .. بدعوى أنهم يرفضون مخطط التهجير القسري لشعبنا، ليواجهوا القصف الصهيوني بصدورهم العارية، وبعد اجتياح رفح استمر مسلسل النزوح القسري لعدة أماكن حتى انتهى به المطاف في خيمة بداخل مواصي خانيونس..
الإقامة في مراكز الإيواء:
إنها نكبة ثانية حلت بشعبنا الفلسطيني بعد النكبة الأولى عام 1948، حيث أقام مئات الآلاف في خيام ومراكز إيواء عامة، تفتقر لأدنى مقومات العيش الآدمي، حيث الاكتظاظ الكبير في عدد النازحين الذين يقطنون تلك المراكز، ولعل مأساة التشرد والإقامة في مراكز الإيواء تعتبر من أشد ألوان المعاناة التي واجهتها أنا شخصيا وعائلتي خلال هذه الحرب، فعلى سبيل المثال كنت في عيادة الفاخورة، وهي مركز إيواء صغير كان يعمل قبل الحرب كعيادة صحية تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وهو مكان لا يتسع لأكثر من مئتين إلى ثلاثمائة نفر، ولكن عدد القاطنين فيه بلغ حوالي خمسة آلاف نسمة، ولذا فقد كان الشخص لا يستطيع أن يجد مكانا يجلس فيه، وكثيرا ما كنت أفضل الخروج في محيط المركز لأترك مكانا لأبناء أسرتي أو أحد أبناء العائلة، أو غيرهم، ولا يخفى على أحد كيف كانت الأمراض التنفسية والجلدية والأوبئة تنتقل بسرعة شديدة بين النازحين، ولا سيما الأطفال وكبار السن وذوي المناعة المحدودة، ولا يمكن أن أنسى كيف كان حلول ظلام الليل بمثابة كابوس رهيب يسيطر على الناس، إذ تُسمع طوال الليل أصوات الانفجارات والقصف وإطلاق النار في كل مكان، فكان الذعر يخيّم على كافة المتواجدين في المكان، ولا يمكنني أن أنسى كيف أن مريضة – وهي امرأة كبيرة في السن- قد توفيت نتيجة عدم توفر علاج للقلب كانت بحاجة إليه، ولم يتمكن أبناؤها من توفيره، ولم يتمكن أفراد أسرتها من دفنها إلا بعد مُضِي ما يزيد على اثنتي عشرة ساعة على وفاتها، حيث اقتنصت عائلتها فرصة توقف محدود للقذائف وتم دفنها في مدرسة أبو حسين المجاورة، ولعل من أبرز الأحداث التي حفرت ندوبا عميقة في الذاكرة هي فترة الحصار الذي فرض على العيادة، حيث تم محاصرتها لحوالي أسبوع تقريبا، ومُنِع عنها الطعام والماء ومُنع الناس من نقل بعض غالونات المياه من بئر مجاورة للعيادة، وقد استُشهد العديد من الشبان – حوالي خمسة من الشباب- الذين حاولوا الخروج لتوفير شيء يسد رمقهم، أو هروبًا من جحيم الازدحام الفظيع في داخل العيادة، وقد تم استهدافهم من قناصة الاحتلال، أو من خلال طائرات مسيّرة، تسمى (الكواد كابتر)، ولم تنته المأساة هنا، بل كنا لا نتمكن من دفن الشهداء الذين كان العديد منهم يستشهد بسبب عدم وجود أي إمكانيات طبية لإسعافهم والتعامل معهم، وقد ظلّت بعض الجثامين مُسجّاة على طاولة داخل مركز الإيواء ليومين أو أكثر، حتى أتيحت فرصة لدفنهم مؤقتا في مدفن خاص ابتدعه الناس بجوار المركز، بسبب منع الاحتلال للناس من الدفن في المقابر العامة..
بل لم يسلم من تلك القذائف العشوائية التي كان يُطلقها الجيش الإسرائيلي باتجاه المبنى حتى من يحتمون بداخله، ولا أنسى كيف أصيب أحد المسنين برأسه أثناء وقوفه بجوار أحد نوافذ المبنى في الطابق الثاني، وفي حادثة أخرى أصيب أحد أصدقائي بشظية في رجله أثناء سيره مع والده المُسن في أحد الممرات الداخلية.
أما النازحون في مراكز الإيواء المذكورة؛ فقد أصبحوا يواجهون برد الشتاء القاسي، وقلة وجود الملابس والأغطية، وقد كنت أنا على سبيل المثال أتقاسم الفراش مع أربعة أو خمسة أفراد في بعض الأحيان، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن تلك المراكز، ولا سيما في منطقة شمال غزة الممتدة من وادي غزة وحتى منطقة بيت حانون لم تكن مرخصة بشكل رسمي من قبل الاحتلال؛ إذ لم يُسمح بافتتاحها للنازحين، حيث قام المحتل بتوزيع العديد من المنشورات – التي كان يُلقيها من الجو أو عبر موجات الإذاعات المحلية- طالبا من الناس المُهجرين النزوح إلى منطقة جنوب غزة، وتحت نيران القصف المتواصل غادر مئات الآلاف إلى المنطقة الوسطى وخانيونس ورفح تاركين بيوتهم وبعض أفراد عائلاتهم وممتلكاتهم التي تضررت إما جزئيا أو كليا بفعل القصف العنيف والمتواصل من خلال الأحزمة النارية التي كانت تنفذها طائرات الاحتلال بين الفينة والأخرى.
أما معاناة النساء الحوامل؛ فكثيرا ما أتى المخاض على بعضهن داخل مراكز النزوح والإيواء تحت جنح الظلام الدامس، والقصف المتواصل، مع عدم وجود أية وسيلة نقل أو إسعافات لنقلهم إلى أقرب مركز صحي أو مستشفى، ولقد شوهد الكثير منهن يضعن أطفالهن في غرفة غير مجهزة تفتقر لأبسط الظروف الصحية والإنسانية في مشهد في غاية الصعوبة.
ولم تقتصر معاناة النازحين والمشرّدين عند هذا الحدّ، بل امتدت إلى فقدان الماء، سواء ماء الشرب، أو مياه البلدية المخصصة للاستعمالات المنزلية، علما بأن الكثير من قاطني تلك المراكز أصبحوا يستخدمون مياه البلدية التي تحتوي على نسب عالية من النترات والأملاح بغرض الشرب والطبخ، مما تسبب لهم بنزلات معوية، وآلام في الكلى، وأمراضٍ أخرى نتيجة التلوث.
ومن جملة المصائب التي صُبّت فوق رؤوس شعبنا المغلوب على أمره منع الاحتلال لإدخال الغاز المنزلي – غاز الطهي- مما جعله يُباعُ بأسعار باهظة الثمن، إذ وصل سعر كيلو الغاز لحوالي 40 دولارا، الأمر الذي جعله صعب المنال، وأصبح اعتماد الناس على الحطب والأخشاب ..
ولا يفوتني أن أنوّه في هذا المقام إلى ظهور الكثير من النزاعات والأزمات الاجتماعية بين النازحين والتي ضربت النسيج الاجتماعي بقوة خلال فترة الحرب- الناتجة عن التعب النفسي والقهر والعجز عن فعل أيٍّ شيءٍ، فالفقر سيد الموقف هنا، فلا أمن ولا غذاء ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا فراش للنوم ولا ملابس، ولا أيّ شيء من أبسط مقومات العيش الآدمي الكريم. إن كل إنسان في تلك الملاجئ البائسة، ولا سيما أرباب الأُسرِ ومن يعيلون أطفالا قاصرين أو عجزة وكبار سنٍ ومرضى يعاني في واقع الأمر نزيفا داخليا عميقًا متواصلاً، بات ينهش بقوة في جسده وعقله وروحه، ولا سبيل للخلاص منه وتفريغ ما في النفس من كبت وقهر وانفعالات هائلة حتى لو وضعت الحرب أوزارها..
جبال القمامة والقاذورات ومخلفات الحرب:
أمّا عندما يخرج النازح من مركز الإيواء أو من الخيمة التي تؤويه أو من بقايا بيته، أو من أية بقعة منسيَّةٍ في غزة لعله يخفف عن نفسه عناء الزحمة وضيق النّفس والعتمة وانقطاع الكهرباء، ليرى أكوام القمامة المنتشرة في كل مكان والتي تزكم الأنوف، إذ تفوح منها روائح الحيوانات النافقة، نتيجة غياب دور البلدية والمؤسسات العامة، هنا يقوم بعض الشباب بمبادرات فردية بإشعال النار في تلك القمامة للتخفيف من وطأة تلك الجبال والتلال المتراكمة من القاذورات، التي شكّلت بحدّ ذاتها بيئة جاذبة للبعوض والحشرات الضارة والحيوانات الضالة.. الأمر الذي تسبب في انتشار الأمراض الجلدية والتهاب الكبد الوبائي والكوليرا وغيرها من الأمراض الناتجة عن تسرب التلوث للمياه الجوفية في باطن الأرض ..
ولا ننسى سببا هاما من أسباب الأمراض والإعياء وقلة المناعة الناتج عن فساد الأغذية بسبب الانقطاع المتواصل للكهرباء، الأمر الذي تسبب بخسائر فادحة للتجار والمستهلكين على حد سواء، وتسبب أيضا بأمراض معوية عديدة، سيما ونحن في فصل الصيف اللهب، حيث درجات الحرارة القاسية كفيلة لوحدها بإتلاف كل شيء، بل لقد أحرقت الإنسان ودمّرته جسديا ونفسيا حتى صار الناس كالأشباح يهيمون على وجوههم في شوارع غزة وأزقتها الكئيبة‼
والأمر يزداد سوءًا بالنسبة لأهلنا وإخواننا الذين يسكنون الخيام في جنوب قطاع غزة ووسطه، فقد أصبحت تلك الخيام أفرانًا حامية وجحيما مقيما، وموئلاً للكثير من الزواحف والقوارض والحشرات والكائنات المختلفة التي تهرب من حر الصيف وتخرج من مخابئها وجحورها فتشكل ذعرا وكابوسا رهيبا للنازحين ولا سيما الأطفال والمرضى وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم ..
مشفى كمال عدوان.. مأساة متكررة:
أما في مشفى كمال عدوان الكائن في منطقة مشروع بيت لاهيا، فقد كان اثنان من أبنائي يعملان كممرضين متطوعين بداخله، علما بأنهما ما زالا على مقاعد الدراسة الجامعية في السنة الثالثة في قسم التمريض بجامعة الأزهر بغزة.
ويُذكرُ هنا أنّ عددًا من أفراد عائلتي كان يقطن مشفى كمال عدوان المذكور..، وقد رفض أولادي التوأم مغادرة المكان قائلين إنهما يقومان بالواجب في هذه الأوقات الصعبة، وأن المسؤولية تحتم عليهما المكوث مع الجرحى والمصابين والمرضى لعلاجهم والقيام بما يتطلب تجاههم..، سيما وأن عددا كبيرا من طاقم المشفى كان قد غادر شمال القطاع إلى جنوبه في بداية الحرب بعد أن طلب الاحتلال من سكان منطقة شمال غزة مغادرته إلى جنوب وادي غزة، علما بأنّ الاحتلال ما زال يمنع الذين غادروا شمال القطاع إلى الجنوب من العودة.
كل هذا جعل أوضاع المشفى تزداد سوءًا يوما بعد يوم، فنحن نتحدث عن حصار ونقص في الوقود والمعدات الطبية، ونفاذ لمستلزمات العلاج، وغياب تام للكهرباء، وشحّ كبير في المياه…، ومكان عام ضيِّقٍ يعجُّ بآلاف النازحين المتعبين والمنهكين..
هنا لا يمكنني أن أنسى ما حييت مشهد الجثث التي كانت تتقاطر يوميا على المشفى، وتُترك دون دفن لساعات طويلة حتى يأتي أحد أفراد الأسرة للتعرف عليها، فلم يعد هناك ثلاجات للموتى بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وكان البعض منها يُدفن في باحة المشفى أو بجواره في قبور يتم حفرها سريعا بالأيدي بسبب انبعاث الروائح الكريهة، وتكاثر الحيوانات الضالة والحشرات في المكان، وهناك بعض الجثث كانت تُنقلُ على عربات تجرُّها الحيوانات؛ لأن ذويها يريدون دفنها في أماكن قريبة من أماكن تواجدهم فيما تبقّى من بيوتهم أو في مراكز الإيواء التي أصبحت تضم في جنباتها الأحياء والأموات ..، وتجدر الإشارة إلى أنّ هناك الكثير من بقايا الأجساد أو الأشلاء التي لم تجد من يتعرف عليها، وفي هذه الحال يتم التعامل معها كـ (مجهول)، حيث يتطوع فاعلو الخير، ويوارونها الثرى، بدموع حرّى، وقلوب تنفطر أسى وألما لما حلّ بشعبنا المكلوم من مصاب جلل تقشعر لهوله الأبدان وتشيب لفداحته الولدان …
كما حدثني الكثير من شهود العيان كيف كان يأتي المصابون الذين بٌترت أطرافهم أو أصيبوا إصابات بليغة نتيجة القصف، حيث كان يستشهد معظمهم بسبب النزيف المتواصل، وعدم القدرة على التعامل معهم بسبب ضعف الإمكانيات الصحية اللازمة.
وبالعودة لما حدث في المشفى؛ فقد حوصر لمدة تزيد عن ثلاثة أسابيع، ثم بدأ قناصة الاحتلال يطلقون النار صوب كل داخل أو خارج من المشفى، وقام الاحتلال باستهداف غرفة العناية المشددة في الطابق الثاني من المشفى، وسقط عدد من الكوادر العاملة والمصابين بين قتلى وجرحى، ثم أخذت الآليات العسكرية تقترب شيئا فشيئا من المشفى، وقام الاحتلال بإحداث دمار هائل في كافة المباني المحيطة أو حتى البعيدة، والتي تؤدي إليه من كافة الاتجاهات…، إلى أن تمكَّن جنود الاحتلال من دخول المشفى بعدما تم تدمير السور الخارجي المحيط به، وتم نسف بواباته وصارت شظايا المدفعية تتناثر في كل مكان، الأمر الذي أدى إلى سقوط المزيد من الضحايا بين النازحين الذين كان يقدر عددهم بما يزيد عن أربعة آلاف نازح، كانوا يتقاسمون الهمَّ والآلام والمعاناة فيما بينهم، ولعل أبرز ملامح المأساة كانت تبدو حينما نرى الكثير من الصبية والرجال يبحثون عن بقايا الأخشاب أو أغصان الأشجار التي تم قصفها أو إحراقها في الشوارع والحارات والأزقة ليتم استخدامها في الطهي، وآخرون كانوا يقضون يومهم بحثا عن وسيلة يتمكنون من خلالها من شحن هواتفهم النقالة، ولربما خاطروا بأنفسهم وبأبنائهم بالذهاب إلى أماكن بعيدة نوعا ما عن أماكن تواجدهم، وآخرون كانوا يبحثون عن طعام لأُسرهم وأبناءهم الجوعى والعطشى..
ومن المشاهد التي زادت الألم وعمقت جذور المعاناة طوابير المصطفّين من أجل الحصول على غالون أو اثنين من المياه اللازمة للاستخدام الشخصي أو للطهي وغيرها، ولقد رأيت كيف كان الكثير من النازحين يضطر للوقوف لخمسة ساعات أو أكثر للحصول على جزء يسير من المياه، علما بأنها مياه غير صالحة للشرب، ولكن غالبا ما كان يضطر الناس للشرب منها، بسبب قلة فرص الحصول على مياه الشرب بعد أن قصف الاحتلال محطات التحلية أو منع دخول الوقود اللازم لتشغيلها .. كل ذلك دفع الكثير من السكان – سكان منطقة شمال وادي غزة – للنزوح باتجاه جنوب القطاع، لعلهم يجدون ما يسدّ رمقهم من طعام أو شراب، أو أمن منشود لم يجدوه في كافة أنحاء القطاع، حيث القصف والأحزمة النارية – وهي قصف عنيف تنفذه طائرتان أو أكثر في الوقت نفسه – وهذا أسلوب قاسٍ لا يُبْقِي على حجر ولا شجر في المكان، وقد أعادت القطاع المحاصر لعقود طويلة إلى الوراء، إذ دمَّر البنية التحتية بالكامل والمنازل والمؤسسات العامة والمساجد وغيرها ..
ومن المشاهد المؤلمة – وما أكثرها – إجبار الجيش الإسرائيلي للمدنيين الأبرياء على التجرّد من الملابس، وهم رافعون أيديهم، ومن ثمّ يتمّ إخراجهم من المراكز بمشاهد مُذلَّة ومُهينة مشياً على الأقدام الحافية في البرد القارس..، وقد تم نشر تلك المشاهد المؤلمة علنا على مواقع التواصل، وعلى مختلف المحطات الإعلامية..
مساعدات مغمسة بالذلّ والمهانة:
يتحدث الإعلام العربي والعالمي عن وصول العديد من الشاحنات المحمّلة بالغذاء لغزة، ولكن الحقيقة هي أننا نسمع جعجعة، ولا نرى طحينا، حيث يضطر الناس وتحت وطأة الجوع والحاجة للمبيت خارج المنزل بجوار الأماكن التي يعتقد السكان أن المساعدات قد تسقط فيها، هنا تبدأ المأساة حيث يسيطر على تلك المساعدات ثلة من الشبان المسلحين الذين يسيطرون عليها، ولا يتركون مجالا لعامة الناس فرصة للاستفادة منها ..، بل يضطر عامة الناس لشراء تلك الوجبات من الأسواق بأربعة أو خمسة أضعاف سعرها، على سبيل المثال بيعت علبة من العدس المطبوخ بحوالي سبعة إلى ثمانية دولارات.. إن الفلسطيني يتعرض لأبشع أنواع الاستغلال والتجويع والقهر المعنوي والمادي .. إذ إنّه يعيش النكبة الكبرى بكل فصولها .. ولا يمكنك أن تمر بشارع أو بسوق دون أن تجد مَن يستحلفك بأن تعطيه ما يسدّ رمقه، فأولاده جوعى منذ أيام، وقد حدثني أحد الأصدقاء الذي كان يعمل بأحد المستشفيات في شمال غزة أنّ إحدى النساء صارت تتوسّل إليه أن يعطيها ولو نصف طبق من الأرز لعله يسدّ جوع أطفالها الذين لم يتذوقوا الطعام منذ أربعة أيام ..، أما الموظفون – وهم قلة – فهم لا يتمكنون من الحصول على رواتبهم بسبب عدم سماح الاحتلال للبنوك بالعمل إضافة إلى كونها قد تضررت جزئيا أو كليا أثناء القصف، وهنا يضطر الكثير من الموظفين للتعامل مع المُرابين – حفنة من التجار المجرمين الذين يعتاشون على هموم الناس ومعاناتهم- الذين يتقاسمون الراتب مع الموظف، فيأخذون نسبة تصل إلى 20% من قيمته، للموافقة على إعطائهم ما تبقى من رواتبهم، ناهيك عن كونهم يئنون بشدة تحت وطأة الارتفاع الجنوني للأسعار .. ذلك الغلاء الذي جعل كل أهل غزة بلا استثناء من أهل الحاجة والفقر والعوز، كما أصبح كل همّ مَن بقي على قيد الحياة من الأبرياء تأمين قوت اليوم له ولأفراد أسرته ..، علما بأنّ الراتب نفسه يتم استلامه منقوصًا لنسبة قد تصل في أفضل الأحوال إلى 50% سواء كان الموظف تابعا لغزة أو رام الله.
هنا لا يمكنني أن أنسى كيف أكل معظم سكان شمال غزة على وجه التحديد خبزا تم تصنيعه من علف الدواب، بعد أن منع الاحتلال دخول الطحين وأصبح كيس الطحين يحتاج راتبا بأكمله، إذ وصل الكيلو الواحد منه لحوالي 35 دولارا، مما حدا بالكثير من الناس للقيام بطحن القمح والذرة ثم خبزها، لسدّ رمق الأطفال الجوعى..
خلاصة القول، فإنّ قصة إنزال المساعدات هي كذبة كبرى لذر الرماد في العيون، وكما أسلفنا فإن ذلك عائد لقلتها، وكثرة أعداد السكان الذين هم بحاجة إليها، وسيطرة بعض الخارجين على قيم شعبنا وتقاليده عن القانون والأخلاق واستغلال الأزمات المتلاحقة لصالحهم، مما تسبب في وقوع الكثير من الضحايا من الفقراء المُعْدَمين الذين يتعطشون للحصول على ما يسد حاجتهم وحاجة أطفالهم من الطعام والشراب..، أضف إلى ذلك أنّ معظمها يأتي على شكل وجبات فردية خفيفة، ولا يسد فراغا في حياة السكان، حيث الحاجة ماسّة إلى الغذاء والدواء والحليب والطحين والأرز والسكر وغاز الطهي والوقود وغيرها ..
ولعل من سخرية القدر أن نذكر هنا أن أحد الأطفال قد استشهد لسقوط براشوت من المساعدات المزعومة فوقه، وسبق ذلك مقتل خمسة من ضحايا المجاعة الرهيبة اليومية التي نتعرض لها، وما زلت أتذكر قيام بعض النساء اللواتي يصنعن بعض الخبز وما تيسَّر من الطعام المعجون بالحزن والأسى، ويستنشقن الدخان المنبعث من بقايا الأخشاب وأغصان الأشجار التي ما عادت تزين غزة بعد أن تمّ إحراقها وقصفها وصارت كالركام المتناثر على أرصفة الشوارع وفوق البيوت المدمّرة وفي كل مكان …حقا إنها رحلة من النزيف تُدمِي قلوب كل الأحرار في أرجاء المعمورة، وإن القلم ليعجز عن الوصف والكتابة لفداحة المأساة والتراجيديا التي يحياها الشعب الفلسطيني الذي يشعر بمرارة الخذلان والناصر في لحظة تاريخية قاتمة ممزوجة بالدم والدموع والعذابات التي لا تنتهي..
وقبل الختام لابد أن نذكر أن كل ما ورد من أرقام وأسعار للسلع في هذا التقرير قابلة للزيادة، ففي كل لحظة تزداد الأمور صعوبة وقتامة، ولكل يوم همومه وأحداثه التي تتضخّم وتتطور نحو الأسوأ، وكان الله في عون غزة..‼
انقطاع الاتصال والتواصل:
أمّا المواصلات ووسائل النقل المختلفة؛ فهي بحدّ ذاتها معضلة كبرى بالنسبة لسكان غزة، فبعد أن منع الاحتلال دخول الوقود صار الاعتماد بشكل شبه كلي على الدواب من خلال العربات التي تجرها الحمير والبغال، بل لقد صارت الدواب نفسها هزيلة وضعيفة بسبب قلة الطعام والعناية، أما أسعار التنقل باستخدام تلك العربات؛ فقد صارت باهظة الثمن، وأضحت الوسيلة الوحيدة المتوفرة بعد أن عزَّ وجود السيارات والباصات التي أصبحت بالنسبة للمواطن الغزي منتمية لعصر آخر مختلف عما يعيشه ويراه في زمن الحرب ..
إن من أعظم ما يعيشه شعبنا المنكوب انقطاع الاتصال أو التواصل بين أبناء العائلة الواحدة، فهناك مَن قُتِل أو تشرَّد أو صار نازحا في أحد مراكز الإيواء التي تحكي لوحدها قصة أسى ممتدة ترافق الفلسطيني في الوطن وخارجه، أجل لقد تحوّل الاتصال بالأحبة والأصدقاء أمنية صعبة جدا، وبعيدة المنال، رغم أنّ التواصل بحدّ ذاته يحمل في طياته فائضا من التعب والهموم، التي طفح بها الكيل، وأصبحت النفس تنوء بحملها، وصار لزاما على أحدنا أن يتكلم لئلا ينفطر قلبه ألما وحزنا .. إنها حوارات مُرّة مملوءة بالحزن والغضب والسخط واللوم .. لم يعد أحدُنا يتذكر ما تفوّه به لسانه، فالأحداث تتفاقم وتتواصل، والأوجاع تتواصل وتتكرر كل يوم..، ونشرات الأخبار حُبلى بالمآسي التي هي أكبر من امتداد النزف، وأعظم من اتّساع الذاكرة في غزة التي لم تعد صالحة للحياة، ثم صار الأخ يُنهي المكالمة النادرة مع أخيه بعد أن شهدت عيونهم وقلوبهم أثقل وأصعب أيام العمر، حيث القلوب والخواطر مكسورة ..، ثم تلهج الألسنُ بالدعاء على أمل الفرج القريب أو اللقاء إن ظلّ في العمر بقية..‼
لا يغيّر الله ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم:
مما يؤسف له ذلك التردّي القيمي والأخلاقي الذي وصلنا إليه نتيجة الحرب، الأمر الذي يجعل الأسى يعتصر القلب، والدمع ينهلّ من العينين، حقا كأننا في حلم وسكرة لم نستفق منها بعد، أنا على سبيل المثال تعرّض بيتي للسرقة مرتين، ونُهِبت معظم محتوياته، ولا سيما الثمينة منها، أو اللي عليها العين كما يُقال، وحسبنا الله ونعم الوكيل .. وبرأيي نستطيع أن نُجمل أبرز الآثار التي خلفتها الحرب كالتالي:
– نشبت عن الحرب خلافات ونزاعات نتج عنها جرائم، ستترك آثارًا وخيمة ستبقى لفترة طويلة بعد الحرب.
– هناك عدد كبير من المفقودين يُقدّر بعشرة آلاف وربما أكثر من ذلك ما زال مصيرهم مجهولاً لحتى الآن.
– كثرة اللصوص والسرقات؛ حيث صارت للمسروقات أسواق خاصَّة تبيع كل أصناف الأثاث والبضاعة والأغراض المنهوبة، ولا شكّ أنّ هناك مَن سرَق عن حاجة، وهناك مَن سرق عن طمعٍ وبلطجة وسوء تربية وما أكثرهم ..
– ناهيك عن بعض التجار الذي كشَّروا عن أنيابهم وعن وجوههم القذرة، والذين صاروا يحتكرون البضاعة، ويمنعون تداولها، لتنزل إلى السوق السوداء بعد أيام أو أسابيع بأسعار خيالية لا توجد حتى في أرقى الاقتصادات في العالم كله، وقد أشرنا إلى هذه النقطة.. هنا لابد من التذكير أنّ الكثير من رجال الأعمال والتجار وأصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة قد خسروا رؤوس أموالهم ومحلاتهم ومصالحهم، بعد أن طالها الهدم الكلّي أو الجزئي أو الحرق أو النهب والسلب من قبل بعض المارقين واللصوص العابثين والمفسدين كما أسلفنا …
وكما أسلفنا لعل الأخطر من ذلك كله هو حالة الانهيار القيمي والأخلاقي التي سادت المجتمع، والمتمثلة في استحلال الأموال والأرزاق والأملاك وكل ما يقع اليد تحت وتبصره العين … وهنا يحضرني محاورة لطيفة بين أنديرا غاندي ووالدها الزعيم “جواهر لال نهرو”، حيث سألت أنديرا غاندي والدها: ماذا يحدث في الحرب؟ ردّ عليها والدها: ينهار التعليم والاقتصاد، فقالت: وماذا يحدث بعد انهيار التعليم والاقتصاد؟ أجابها والدها: تنهار الأخلاق. قالت: وماذا يحدث أيضا لو انهارت الأخلاق؟ ردّ عليها بمنتهى الحكمة: وماذا يُبقِيكِ في بلدٍ انهارت أخلاقه؟ يستطيع الإنسان أن يتعايش في أيّ مجتمع فيه بعضُ النقص الغذائي الاقتصادي الترفيهي… إلا انعدام الأخلاق والسبب أنه يسود اللئام والسفلة، وتذهبُ الأعراف والقوانين والخير، ويتحول كل شيء إلى غاية، وبهذا تصبح الحياة شبه مستحيلة ‼
أجل إنه الفساد إذن، الذي أطل برأسه منذ بروز هذه الأزمة وأخذ يكبر كل يوم ويتنامى، وكشف جوانب مخفية من حياتنا، جعلت شعبنا يعيش تسونامي من الكوارث المتلاحقة في غزة، تبدأ بالاحتلال وفساد القيادة، مرورا بالتجار الفاسدين والمحتكرين وليس انتهاء باللصوص والحرامية الذي يمثلون طابورا خامسا يزيد في معاناة الناس ويعمّق جراحهم لا سيما أنه بعضٌ من ظلم ذوي القربى..
إن الذي حدث وما زال يحدث يجعلنا بحاجة ماسّة لمراجعة الذات بغية تصويب الحالة، ويدعونا أيضا إلى إعادة فتح الملفات من جديد، وإعادة تحديد الأولويات، فالفراغ القيمي والأخلاقي هو أخطر ما يوجه شعبنا المحتل، فالحرب ما بعد الحرب كما يُقال، وهي هيِّنةٌ أمام ما سيجابهه شعبنا في المراحل القادمة ..
غزة من الداخل.. الحقيقة كما هي:
إنها الحرب إذن، دمار وخراب في كل شيء، وموتٌ بطيءٌ وكآبة تسيطر على المشهد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، المستقبل مجهول واللحظة قاتمة، شعبٌ كامل تُسرق أحلامه وتُسلبُ إرادتُهُ، ويتم التعامل معه كمخلوقٍ غائب عن الوعي، مشلول القدرة على الفعل والتفكير، وما زال الجرح مفتوحًا، وما زالت الناس تسرد أوجاعها، وتحاول كل يوم لملمة جراحها.. ولكنها تنتقل من خيبة لأخرى كلما استمعت لنشرات الأخبارٍ، أو نشرات التهريج والفقاعات الإعلامية التي تتعامل معنا كأرقامٍ لا قيمة لها ..
إن المتأمّل في وجوه الناس صار يقرأ الحزن في عيونهم، ويسمعه في كل حركاتهم وسكناتهم، لقد بات شعبنا وحيدا طريدا … كمن فقد العزّ والعزوة والأهل .. ولسان حاله كما يقول المتنبي:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا
حقا لا مبالغة إذا قلنا أننا نشعر وكأننا نعيش مشاهد دامية وصعبة في أحد أفلام الرعب المثيرة، إن كونك في غزة ما زلت حيًّا يعتبر إنجازًا..، فالإنسان بروحه ووجوده وكينونته بلا قيمة، من السخافة أن تفكر وأنت في غزة في بيت أو ملبس أو مأكل أو مشرب .. وانعدمت البدائل، وانتشرت الذئاب في كل مكان، وبرزت أنيابها وغرزتها في الأجساد المُنهكة، والنفوس المختنقة، وعاث الفساد في الأرض، وضاقت سُبل الحياة، وتقزّمت المصائب، وخسر الناس كل شيء، بعدما مات الكثير منهم جسدا وروحًا ..
إنّ أبناء شعبنا يواجهون غدر الزمان ومذلة الغربة والحاجة لوحده، وللحقيقة فقد تفاجأ أو ربما أذهل الكثيرين الحجم الكبير للفساد والخلل الذي يكتنف كافة القيادات التنظيمية بلا استثناء، والازدواجية الأخلاقية لديهم، إذ إن كل تنظيم يحلل لنفسه ما يحرمه على الآخرين ..، وما زال العقل الذي يحكم قياداتنا التنظيمية انفعاليا عاطفيا، يمتلك قدرة عجيبة على تبرير الفشل والإخفاق وتحويل الهزيمة إلى انتصار، وإزاحة المسؤولية عن نفسه وتحميلها للآخرين..، لا يحتكمون للعقل والمنطق ولا يأخذون بالأسباب وقراءتهم للواقع ومعطيات المرحلة قاصرة.. إننا بحاجة ماسَّة للانتصار على الأنانية والذاتية المتأصلة فينا قبل فتح الملفات الكبيرة والمعقدة ..
هنا لابد أن نشير إلى أن الخلل والفجوة العميقة في الفكر والثقافة قد طالت معظم شرائح المجتمع، هنا لا أستثني الكثير من النُّخب المثقفة والمتعلمة للأسف، ذاك الخلل الذي طال بقوة البنية الفكرية للمجتمع، بعد أن استحلّ الناس أموال بعضهم البعض وممتلكاتهم وبيوتهم، فهل هذا الجيل يؤسس بشكل حقيقي للتحرير؟! وهل هذه التصرفات تليق بقضية عادلة، بل من أعدل القضايا على مدار التاريخ الإنساني..‼ لابد من وقفة صادقة مع الذات للمراجعة والمحاسبة، لنعرف وندرك إلى أين نحن ذاهبون.. وما يجب علينا أن نفعله لنقفز فوق مآسينا ونعبر إلى ضفة الأمان إن كنا ممن يعي ويسمع أو يعقل ما يجب علينا إدراكه وفعله على مستوى القيادة أو القاعدة لعلنا نصل إلى برّ الأمان ..‼