في العام 1996 وقف مجموعة من الطلاب يكسوهم (البارقيط) وإتخذوا من الوطنية زياً، إنقسمو إلى مجموعتين متقاربتين يتوسطهم (معلمهم) يحمل قلماً بيمنه ويسبقهم محبةً الوطن ثم أنشدوا بصوتٍ يتردد صداه حتى اللحظة:
« الحبو علاني..
وسماهو ظلاني..
النيلو أرواني..
وجرى جوة شرياني.. »
ثمانيةٌ وعشرون عاماً وصوتهم يتردد صداهُ في العالم، وكأنما نسجوا صفةً سحرية لدخول القلوب، كانوا شباباً يقودهم شغفهم نحو الحياة والمستقبل.
الأغنية التي صاغ كلماتها في الأصل محمد عبدالقادر تلودي للمغني فضل المولى زنقار، في أثناء الفترة التي شهدت مشاركة الجنود السودانيين في الحرب العالمية الثانية مع الحلفاء لينالو بعدها حقق تقرير المصير.
ولكن في المهرجان القومي للمسرح المدرسي والإبداع الطلابي حدثت نقلة للأغنية من جديد، وأعيدت صياغتها وساهم في كتابة كلماتها أكثر من شاعر بحسب إفادة دكتور الماحي سليمان الملحن والموزع الرئيسي الذي ظهر مع أولئك الطلاب على خشبة المسرح.
كانت الفكرة أن يتغنى (للسودان الوطن الواحد) من كسلا لبارا، ومن مروي لراجا وكردفان وأمدرمان؛ فإستهدفوا عدد من الشعراء ليكتب كلٌ منهم أبيات لمدينةٍ مختلفة.
هذا الشعور الجمعي، في الكتابة، التلحين والآداء؛ منح تلك الأغنية تذكرة عبور أبدية لقلوب كل السودانيين على مدى (28 عاماً) وفي كل عام كالذهب تزداد توهجاً وبريقاً.
لو أننا إقتبسنا شعور هولاء الذين وقفوا على خشبة المسرح لا يرون أمامهم سوى علم السودان، وأرض النيلين بعظمتها لكنا مثلهم في صدق الشعور والإنتماء، كان كل منهم يرتجف قلبه بالمحبة وينطق لسانه بكلمات الفخر لهذه البلاد.
لعل ما يدهش في أغنية كهذه ليس تمكنها من الوجدان السوداني، ولا خلودها لكل هذه السنوات؛ ولكن بكاء (غير السودانيين) معها، عودوا للتعليقات الموجودة أسفل الفيديو الأصلي وأقرأوا جنسياتهم وشعورهم وهم يستمعون لهذه الأغنية التي لا تعنيهم معنى ولا شعوراً، ولكن صدق المحبة فيها طقى فأسمع.. !!
تصور إحداهن غضة الأحلام، حديثة التجربة في الغناء كثيرة الأمنيات، أن تقف أمام الشعب السوداني أجمع وتصدح بصوت كل الذين مروا على محبة على هذه البلاد؛ من لدن خليل فرح والتني وحتى آخر الذين حملوا مشعل الوطنية الصادقة:
« أمدر بسالتنا..
مصدر رجالتنا..
عنوان مقالتنا..
وأقروا المقال تاني.. »
وما زال المفكرين والمنظرين يبحثون في هوية هذه البلاد؛ هل نحن عرب أم أفارقة، أم نحن مزيج من الهرية الآفروعربية، لم يخطر ببالهم يوم أن شباب لم تتجاوز أعمارهم عشرين عاماً في العام 96 وقفوا أمام شاشة التلفاز وعلى مدار (عشرة دقائق متكاملة) وقفوا يرددون كلمة واحدة:
« سووووووداني»
وللذين أعجزهم أن يسمعوا أو يلتقطوا المعنى قالوها لهم صراحة:
« أقروا المقال تاني.. »
فهل ما زال المفكرين يبحثون عن الهوية لنا ونحن منذ عشرين عاماً نردد:
– سوداني.
الهوية الكاملة، والإنتماء الواضحة، الأمة التي لا تحتاج للبحث عن أصل هويتها.
– نعم سوداني.
– بهذه البساطة هذه الهوية.
المشاعر الصادقة تصل سريعاً، والأشياء الحقيقية تبقى طويلاً، وهذا ما أسسه أولئك الذين سبقونا محبةً ذات يوم ورددوا بصوت واحد لا يخالطه شك في المحبة:
« سوداني الجوة وجداني بريدو»
لا يحتاج الإنسان سوى أن يخلص المحبة ليكون حقيقياً، أولئك جميعاً كانوا صادقين في قولهم وفي فعلهم؛ ليمنحهم التاريخ جزاء صدقهم ذاك وسام الوطنية الحقة على مر التاريخ وربماء للأبد.
شعور غامر بالفخر، إحساسٌ بالحب يملأك، وروح من الوطنية تجتاحك وأن تتأمل قسمات تلك الأصوات الشابة وهي تملأ الأرجاء نداء، وكأنها تريد أن تُسمِع العالم أجمع بصدق إنتمائها لهذه الأرض الطاهرة؛ لذلك تجدهم بين كل مقطعٍ وآخر يرددون بصوتٍ واحد:
« سوداني»
حين لم يجدوا من التعبير ما يكفي إختتموا مهرجان الحب الوطني ذاك:
« نفديك سوداني..
مليون عبيد تاني»
وللذين لم يروا في هذه البلاد سوى العاقين، أصحاب المصلحة؛ فقد قدمت هذه البلاد منذ مئات السنين أبناءها صادقين خلصاً على مر السنين؛ في كل مرة يأتي أحدهم من مكانٍ مختلف ليثبت لك أن الوطنية في قلوب هذا الشعب في كل إتجاهاته.
نزار عبدالله بشير
يوليو 2024