X

عبد الجبار دوسة .. يكتب.. الحرب الدائرة الآن في السودان ليست حرب الزغاوة

لو اكتفيت بهذا العنوان وحده، لكان كافياً لأي فرد من أبناء الزغاوة أن يقف مع نفسه وقفة تأمل ومنطق وواقعية ليفهم المضمون وبأن هذه الحرب ليست حربهم. السودان فيه ما يقارب من ستمائة قبيلة، والقبائل لها إداراتها الأهلية التي من مهمّتها الأساسية الشأن الاجتماعي للقبيلة في إطار التعايش مع غيرها من القبائل في وئام وسلام اتساقاً مع الآية الكريمة “وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، وليس ببعيد الحديث الشريف “دعوها فإنها مُنْتِنَة”، وبالتالي ليس هناك منّا أفراد القبيلة، من يملك تفويضاً للحديث باسمها وإنما نتحدث بصفاتنا الشخصية.

من منطلق المضامين السابقة ومن منطلق المبادئ الإنسانية بشكل عام ومن مبدئي الذي ظل يحكم نشاطي في العمل العام، لست ميّالاً للكتابة عن القبلية والقبائل، ولكن ولأن البعض من أبناء الزغاوة يحاول اختطاف اسم القبيلة للزج بها في حرب هي ليست حربهم، وباعتباري أحد أبناء هذه القبيلة ومعني بالرسائل التي يبثّها البعض، لا بد لي أن أقول كلمتي بوضوح، وهي أن هذه الحرب ليست حرب الزغاوة، بل هي ليست حرب أي قبيلة من ال 600 قبيلة في السودان، وأحسب أنه واجب كل حادب على السلام الأهلي من أبناء القبيلة وغيرها من القبائل، أن يقول كلمته ويتبعها بالفعل في رفض مبدأ الزج بالقبائل في هذه الحرب.

لا ينبغي الخلط بين حق الدفاع عن النفس الذي هو حق مشروع للفرد والجماعة، قبيلة أو أي مجموعة، تحت كل الشرائع والقوانين والأعراف، إذا أعلنت أي جهة “اعتبارية” بأنها تستهدفهم. لم تُعلن أي قبيلة حرباً على الزغاوة، والأصوات الفردية التي ينشرها البعض من هنا وهناك والتي تدعو الزغاوة للاصطفاف أو تجعلهم سلعة للاستقطاب، هي لا تمثل أي قبيلة ولا تمثّل أي أرضية منطقية تستعطف أي عقل سليم وحكيم لينساق وراءها للانخراط في حرب هي ليست حرب القبيلة. نعم، نتفّهم من حيث حقيقة الحروب أنه تحدث فيها انتهاكات وجرائم حرب، نرفض الانتهاكات أياً كان نوعها وحجمها ومن أي جهة جاءت، ولا بد وفي ظل أي حكومة قادمة كما هو متسق مع المواثيق المحلية والإقليمية والدولية، أن تتم التحقيقات ومحاسبة الجناة فيها وفقاً لمقتضيات القانون والعرف والسلام المجتمعي والعدالة بشقّيها الجنائي والانتقالي تحت قراءة حكيمة لتعافي الوطن.

الحرب الدائرة الآن هي حرب بين طرفين كانا ولوقت قريب جزء من مؤسسات الدولة السودانية. من أراد أن يستنفر نفسه من المواطنين للخوض في الحرب إلى جانب أي طرف، فهو يفعل ذلك من منطلق شخصي بحت، ومن أراد أن يدعو لوقفها من أمثالي، فهو أيضاً يقوم على المبدأ الشخصي ذاته ولكل منطقه. وبالطبع من حق كل مجموعة أصحاب رأي متماثل أن ينتظموا ككتلة، تنظيماً سياسياً، حركة مسلّحة، تياراً مدنياً…ألخ… المسميات، ليعملوا على التعامل مع هذه الحرب، ولكن حتماً ليس باسم القبيلة.

أنا أخشى على الزغاوة من البَطر بعد أن من الله عليهم بقدر النشاط ليجدوا سعة في الرزق والعلم، فيقع عليهم ما أصاب أقوام كثر في الماضي والحاضر من حولنا، إن هم زجّوا بأنفسهم كقبيلة في هذه الحرب. الزغاوة ليسوا في عداء مع العرب ولا مع أي مكون قبلي في السودان، فالعرب مكوّن إثني من مجموعة قبائل ينتشرون على امتداد أفريقيا وآسيا وفي دول كثيرة لها حكومات وامكانيات اقتصادية وتخطيطية ضخمة، والعرب في السودان وتشاد، يعيشون من غابر الأزمان، جنباً إلى جنب مع الزغاوة وغيرهم من القبائل، وفوق ذلك، هناك أعداد مقدّرة من أبناء الزغاوة يعيشون ويعملون في مختلف البلاد العربية، كيف لهم أن يعلنوا أنهم في عداء مع العرب؟

الاحتكاكات التي تحدث بين القبائل منذ الأزل في دارفور وفي مناطق أخرى في السودان، هي إفرازات تُعبّر عن فشل الدولة في دورها تجاه مخاطبة تلك القضايا الملحّة لحاجة المواطن، وهي إفرازات كانت زعامات تلك القبائل قادرة أن تحلّها في جلسات عرفية مفهومة ومتفاهمة بين تلك القبائل، ولكن وبعد صعود الحكومات الدكتاتورية الشمولية للسلطة عبر الانقلابات، وخاصة عقب صعود الجبهة القومية الإسلامية للسلطة في السودان عبر انقلاب، وبعد أن عجزت عن أن تكسب تفويض الشعب له عبر الانتخابات، وبدلاً من أن يذهب التنظيم إلى مراجعة فكره وبرنامجه السياسي توطئة لخوض جولات انتخابية أخرى لعله ينجح في كسب التفويض، آثر أن ينقلب على الديموقراطية بالقوة. هذه السلطة عمدت إلى تحييد دور العرف القبلي في معالجة الإشكاليات بينها وسعى وفقاً لمصادر موثّقة في كتب، إلى اختراق القبائل وتسليح قطاعات منها لاستخدامها في خلق فتن أكبر من قدرة الإدارات الأهلية وامكاناتها، لتتحكم هي في استخدام القبائل لتنفيذ أجندتها باستمرار، ولعل الحروب العديدة التي أشعلتها بين مختلف القبائل، لأكبر دليل على ذلك.

يجب أن لا ينسى أبناء الزغاوة بأن هذه السلطة هي نفسها عندما استولت على السلطة في 1989م، قد صنّفت الزغاوة باعتبارهم مهدداً للأمن القومي السوداني، وهي في ذلك احتكرت تحديد ما هو الأمن القومي السوداني واحتكرت أحقية تصنيف الآخرين، بينما هي من حيث المبدأ لا تملك أياً من ذلك الحق، ثم استخدمت قوة السلطة في التعامل مع الزغاوة بذلك التصنيف، وكانت النتائج المرعبة التي عاشها الزغاوة وعاشتها مناطقهم طوال تلك السنوات، كان العديد من أبناء الزغاوة أعضاءً وقيادات في ذلك التنظيم الحاكم، وبعضهم يبدو أنه لم يستوعب بعد الدروس، فخرج الآن ينادي بتحويل الزغاوة إلى مخلب للحرب في السودان. ليتهم يتذكرون أقوال “الفريق ياسر العطا” قبل أشهر قليلة فقط وهو يخاطب بالإسم “د. جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي” اللذان ينحدران من قبيلة الزغاوة، بأن يعودا إلى دولتهم التي أتيا منها في إشارة إلى أنهما وفقاً لقوله ليسا سودانيين وهو قطعاً لا يملك حق تحديد من هو المواطن، فقط هي عنجهية خطاب احتكار الوطن والمواطنة والسلطة الذي تسبب في دمار السودان.

هذه الرسالة ليست خوضاً معمّقاً في المشهد السياسي السوداني الماثل، ولكنها رسالة مختصرة أبعثها بصفتي فرد من أبناء الزغاوة، بأن لا ينجرّوا إلى محاولات الزج بهم واستخدامهم مخلب قط سرعان ما سيتكسّر في حرب هي ليست حربهم كقبيلة. ما يجري في السودان هو نتاج لأزمة الدولة في السودان التي استفحلت وفاضت فانفجرت بمختلف تقاطعات الأجندة بداخلها، ولكن حلّها ليس بدعوة الزغاوة أو أي قبيلة للاصطفاف إلى جانب أي طرف، وإنما بالعمل على مختلف المستويات لوقف الحرب والبحث عن حلول توصلنا إلى دولة المواطنة المتكافئة في ظل حكم مدني في نظام ديموقراطي متعدد سياسياً التبادل فيه سلمي وعبر انتخابات حرة. أيها الزغاوة، فكّروا بقليل من المنطق والحكمة والواقعية.