X
    Categories: اعمدة

عبدالباقي جبارة.. يكتب .. ” فزع الحروف “.. انا شفت البعاتي !!!

خلال الايام الماضية ضجت وسائل التواصل الاجتماعي ساخرة ومتهكمة من حديث سفير السودان ب ليبيا الذي صرح عبر قناة الجزيرة مؤكدا بأن حميدتي مات فقال المذيع احمد طه : فماذا يكون موقفك اذا ظهر حميدتي حيا ؟ فقال له السفير بكل بساطة : ” يكون بعاتي ” ولم يفهم المذيع ماذا تعني كلمة ” بعاتي ” فضجت الساحة السودانية وخاصة من رافضي الحرب ساخرة من حديث السفير فكيف له وهو متحدث باسم دولته ينزل لمستوى الخرافة واساطير المجتمعات البسيطة وهو حديث لا يستند لأي حقائق وخاصة في هذا الموقف المطلوب أي مسؤل يتحدث حديث بحجم الكارثة التي ألمت بالوطن وبالشعب السوداني .. لكن في الحقيقة هذا الحديث أي حديث السفير اصبح له فوائد كثيرة أبرزها جعلنا واجهنا واقعنا المر وكشفناه للعالم اجمع وعرف العقليات التي تدير هذا البلد العظيم .. بلد المليون ميل وسبعة انهار والذي اصبح بلد المليون حسرة وحسرة .. كما وردت هذه العبارة في تقرير باحد الفضائيات .. والأدهى والأمر ظهر “البعاتي” أي حميدتي وتحدث بلسان طلق ولكن وصف خصمه البرهان بأنه ” بنخنخ ” والنخنخة تعني الحديث بمخارج حروف غير سليمة مثل أن يتحدث الشخص وهو أنفه مغلقة او هكذا يظهر الصوت والنخنخة هي من صفات البعاتي وكأن حميدتي حاول أن يرد على سفيرنا في ليبيا ويقول له انا ظهرت واتحدث بلسان طلق لكن رئيسك هو البعاتي أي البرهان ان كان البرهان هو من يلعب دور البعاتي الآن ..
اولا لا بد من شرح ما هو البعاتي ؟
في رواية شبه مجمع عليها في المجتمعات السودانية التي تنتشر فيها هذه الخرافة بأن البعاتي هو الشخص الذي يعود للحياة بعد ان يموت ويتم قبره وان هنالك سلالة محددة من بني البشر هم من يعودون للحياة بعد موتهم لكن حياتهم لم تعد طبيعية كما سنشرح ذلك لاحقا وهذه السلالة من البشر يقال هم ” ترب البنية ” أي البنت وترجع قصتها يقال بأن هنالك رجل صالح ومؤتمن لدى عامة الناس وذات يوم أتي له رجل بطفلته هذه وتركها مع هذا الرجل الصالح كأمانة لفترة زمنية محددة ، وفي غيابه أصيبت البنت بالمرض وتوفيت الى رحمة مولاها وعندما رجع الرجل لاستلام طفلته واجه الحقيقة بأن بنته وافاها الاجل وماتت فرفض القبول بذلك وطالب الولي الصالح أن يرد له أمانته كما سلمها له ، فدعى الرجل الصالح ربه فاستجاب له وعادت البنت للحياة وأصبح كل من ينتسب لها يعود للحياة بعد موته ويسمى “بعاتي” ..

من صفات البعاتي أن يظهر في الليل دائما ويعود للاماكن التي كان يرتادها في حياته الاولى وتنبعث منه رائحة كريهة ويصبح شكله مشوه ويظهر أنه يمشي على اطراف أصابع أرجله ويبدو كأنه لديه شلل رباعي وهو لا يظهر لعصبة من الناس كل من يقول أنه رأي البعاتي يكون لوحده أي لا توجد مجموعة من الناس تقول رات البعاتي مع بعض ودائما تكثر هذه الروايات في موسم الحصاد أي ” الدرت ” وتحديدا في اماكن الزراعة المطرية ويكون مستوى نباتات الزراعة عالي بحيث تخبئ البعاتي .. والبعض يفسرون بأن موضوع البعاتي تكثر اشاعته في موسم الحصاد من اصحاب الزراعة أنفسهم حتى يخيفوا الرعاة لا يرتادوا زراعتهم ويخربوها فيقال ” بلاد فلان ” ظهر فيها بعاتي ويخاف الناس من ارتيادها ليلا وخاصة الصبية الذين يعتبر موسم الحصاد لهم ممتع باللهو واللعب لان اماكن الزراعة يتوفر فيها البطيخ وكثير من الثمار الموسمية ..
هنالك حادثة عايشتها وانا صغير قبل دخولي المدرسة وكنا نعيش في احدى قرى شمال كردفان والتي تعتمد علي الزراعة المطرية وتكثر فيها اشاعة ظهور البعاتي في موسم الحصاد ” الدرت ” .
على ما اذكر ذات ليلة حالكة الظلام مساء الخميس الليلة التي تسبق يوم الجمعة وكان هذا اليوم تحديدا يقام فيه ” الذكر ” من كل اسبوع لدي عمي شقيق الوالد محمد البكري وهو من اتباع الشيخ عبدالباقي المكاشفي ويقال عليهم ابكار الشيخ هو ووالدي جبارة البكري عليهم رحمة الله والشيخ نورين والشيخ ودالعجوز واخرين لهم الرحمة جميعا وابكار الشيخ من الاتباع والحيران الاوئل مثل ابناءه يطلق عليهم ابكار الشيخ أي الولد البكر وهؤلاء الابكار رباهم الشيخ المكاشفي على خلقه وهو مجسد في قصيدة تنسب له يقول عبدالباقي المكاشفي فيها : ” سلام الله على السارين ديما .. أهل الحب والعقل السليما .. حاشاهم الكذب والاسراف زورا .. مقنعين النفس من غيبة ونميمة قاموا الليالي فرضا ونفلا وصاموا النهار صوما عميما خيولهم غايرات والنصر هيلهم يحبون كسب السر في ساعة الهجيما .. ابن مكاشفي يا عشيمة واقفا بالباب يا مغني العديمة وصلى الله ربي ثم سلم على نور الهدى ود آمنة وحليمة ” ويكون للواحد من هؤلاء الابكار زاوية أي مكان لإقامة الذكر في منزله وبمنطقته ويكون له اتباع أو حيران الشيخ الكبير الذين لا يستطيعون الذهاب لمنطقة الشيخ المكاشفي ” الشنيكيبة ” بولاية الجزيرة وسط السودان هذه الزاوية يقام فيها الذكر واحتفالات المولد الشريف وذكرى الاسراء والمعراج تقرع فيها ” النوبة والطار ” انواع من الطبول وتتهادي فيها الاصوات في مدح النبي “ص” ويذكر فيها مناقب الشيخ عبدالباقي المكاشفي وكراماته ومنها في احد المدائح تقول : ” سوالو ولد في أي بلد ” أي الشيخ المكاشفي لديه ولد في أي بلد في العالم وخاصة في السودان المترامي الاطراف وللحقيقة هنالك زاوية مكاشفية حتى في العاصمة الامريكية واشنطن وفي اوربا مثل زاوية شيخ الامين بهولندا وبأم درمان وغيرها وهؤلاء الاتباع للشيخ أو الحيران يطلقون اسم عبدالباقي على ابناءهم تبركا به والطفل الذي يسمى على الشيخ لا يضرب ولا يزل ولا يهان داخل الاسرة اكراما للشيخ سيد الاسم ولا ينادى باسمه من غير لقب ولذلك انا لم اسمع اسمي بدون لقب الا بعد دخولي المدرسة ولم اتعرض للضرب حتى اذا ارتكبت خطأ يتم توجيهي بلطف وحتى الان تجاوز اسم عبدالباقي في اسرتنا المئة منهم الفنان المشهور ودالبكري الذي يجيد مديح المكاشفية اكثر من يغني وكذلك امير القبيلة عبدالباقي صافي الدين وغيرهم . المهم في تلك الليلة قرع الطبول أي النوبة والطار حامي الوطيس واصوات المداح العزبة تنساب تشق هدوء تلك الليلة التي تتلبد فيها السحب الماطرة رغم أن موسم الخريف في اواخره وبما أن الذكر يتجمع له الرجال فقط انا واخي الصغير في كنف الوالدة داخل غرفة مظلمة وهي عبارة عن قطية من اعشاب “النال” الذي تنبعث منه رائحة زكية عندما يتعرض للمطر وهو نوع المباني مقاوم لفصل الخريف وكذلك فصل الصيف تكون مباني القش باردة لحد ما وتوجد مثل هذه المباني في ولاية القضارف شرق السودان وكردفان الكبرى وغيرها ، حيث تواجه دائما امطار غزيرة في فصل الخريف وحر غائظ في الصيف ولكن الان نمط البناء تغير كثيرا واصبح مواد ثابتة وخاصة الاسمنتية منها ومن الاسباب تطور ثقافة انسان تلك المناطق ومنها عوامل البيئة حيث قلت الاشجار والاعشاب التي يشيد منها تلك المباني . عطفا
على ما ذكرت كنا انا واخي في كنف الوالدة ونغط في نوم عميق داخل القطية وخاصة الجو يمتزج باللطافة ودفء الامومة حيث هنالك راكوبة أي شكل صالة كبيرة لديها بوابة كبير وتفتح في القطية مباشرة وعادة حلقات الذكر تبدأ بعد صلاة العشاء وتنتهي حوالي منتصف الليل .. واثناء نومنا العميق صحينا انا واخي الذي يصغرني ويسمي الهادي على امام الانصار الذي تصادف ميلاده مع ضربة الجزيرة أبا .. حيث تفاجأنا بصرخة داوية من الوالدة وهرعنا من سريرنا نحوها وفي الحقيقة هو ” عنقريب منسوج من جلد البقر ” .. وتواصل صراخ والدتنا بملء حنجرتها ونحن التفينا حولها وكل ما زاد صراخها نحاول جاهدين نختبئ فيها دون ان نعلم ماذا يدور وهي تستنجد ” يا ابومرووووه يا مرووووووه ” واستمر الصراخ طويلا ويتزامن ذلك مع ارتفاع قرع طبول الذكر وصياح الحيران ورعد المطر من حين لآخر وتواصل صراخ والدتي حتى كادت تفقد صوتها دون أن تجد نجدة وخاصة منزلنا طرف القرية وأضف على ذلك الاصوات العالية أي الصراخ في تلك الليلة شئ معتاد وهي عادة لدى ” الدراويش ” المجاذيب الذين يهيمون حبا وهياما وهم يعبرون عن شوقهم للحبيب المصطفى واخوانهم في الطريق اي طريق العبادة والزهد في الدنيا خاصة عندما يردد المادح ابيات شعر تدغدغ اشواقهم مثل ” عقلي المشتاق كل يوم ل ليم اخواني .. انا والاحباب في طريق القوم . هي اخواني اخوان كتر خطاي ما زرتهم ل ليم اخواني انا والاحباب في طريق القوم ” وهنا يعلو صوت الدراويش بالبكاء والنحيب لدرجة الصراخ حتى يكاد أن يغمى عليهم وهنا ضاع صوت أمي وهي تستنجد خوفا من شئ يكاد يفتك بنا ولكننا انا واخي لم نفهم شئ من ماذا تصرخ الوالدة ولم تشرح لنا أي شئ وهي تعلم لا حيلة لنا ولا نقوى على الدفاع عنها او انفسنا .. رويدا رويدا تراجع صوت الرعد وما لبس أن توقف الذكر وما زالت والدتي تصرخ ولكن بصوت متقطع من شدة الانهاك من الصراخ العالي ولعل أهل الذكر مع صمت الدفوف سمعوا صوت صراخ والدتي وهرعوا جميعهم لنجدتنا .. وقبل أن يصلوا توقف صراخ الوالدة ودخلوا علينا أهلنا الاقربين يتقدمهم الوالد عليه رحمة الله لحظتها عرفنا ماذا يجري ووالدتي تحكي لهم بأن هنالك كائن في شكل انسان وتبينت ملامح هيكله اثناء إضاءة البرق داخل ” الراكوبة “وهو في مواجهة باب القطية ” الغرفة التي بداخلها نحن والوالدة وهي تصف هذا الكائن بأنه طويل بشكل غير معتاد يكاد راسه يلامس سقف الراكوبة وكذلك لا يقف على رجليه بطريقة كعادة أي انسان وقالت أنه ظل يرقص مع ايقاع النوبة باستمرار ويتوقف مجرد ما توقفت وظل هكذا طيلة مدة الذكر مستمر مجرد ما أنتهى الذكر وسمع حركة الناس تتجه لمنزلنا اختفى .. بالتاكيد أختفت معه الحقيقة ولا أحد شاف شئ غير الوالدة لكن بدأت تحليلات أهل الذكر الذين حضروا واجمعوا على أنه ” البعاتي ” او كما يسمونه العقلاء منهم ” القرين .. وهؤلاء لديهم ايمان بأنه لا يمكن لشخص يموت يعود للحياة مرة ثانية لكن لكل شخص قرين ممكن يظهر بطرق مختلفة بعد موت الشخص ولكنه لا يستطيع أن يكون مثل الانسان العادي .. المهم عادت ليلتنا لهدوءها بعد تعويذات قرآنية تليت علينا مع والدتنا حتى لا نفقد عقولنا من شدة الخوف والفزع وظلت هذه الحادثة في مخيلتنا ونتذكرها كلما جاءت ذكرة البعاتي ..
اذن ما هي علاقة ذلك بواقعنا الان .. حقيقة نحن الان نعيش في عصر البعاعيت جمع بعاتي بحق وحقيقة حيث منذ سقوط حكومة البشير في ١١ ابريل ٢٠١٩م اصبح انصار نظام الانقاذ مثل المراة التي توفي زوجها وظلت محبوسة تحلم بعودته ولو في شكل بعاتي مع مقارنة عامل الزمن حبس المرأة المتوفي زوجها اربعة شهور وعشر ايام لكن يبدوا ان حبس الانظمة بالسنين الان مضى على سقوط البشير اربعة سنوات وبضع شهور وبالتالي اعتبروا نهاية الحبس بانقضاء المدة المقررة وبما أنهم طال انتظارهم لظهور البعاتي ارتفعت اصواتهم جميعا تردد ذكراه ومهدوا لذلك بالاشارة الى بعاعيت فرعية مثل وصفهم ل حميدتي بالبعاتي وحميدتي نفسه يشير الى البرهان بأنه بعاتي حين وصفه بأنه ” بنخنخ ” ولكن البعاتي الحقيقي الذين ينتظرونا ظهوره ولا ييأسون من ذلك هو نظام البشير أو البشير نفسه حتى لو ظهر في هيئة كائن آخر ، بالتأكيد ” الكيزان ” لا يخافون من ظهور البعاتي لأن من صفات البعاتي أهل الميت لا يخافون من ميتهم اذا ظهر في شكل بعاتي بل يسعون لإخفاء مسالبه وتقديمه في صورة جديدة حتى لا تحدث الفضيحة ويوصفوا بأنهم ” ترب البنية ” لكن الحقيقة المرة بعاتي الانقاذ يتراءى لنا الان وهو يرقص في راكوبة هذا الوطن المهترئ على دفوف أهل الذكر في القنوات ودول الجوار والمجتمع الدولي ونحن نصرخ ونصرخ ونصرخ واصوات القنابل والمفرقعات تصم اذان من بيده الزناد ومن يريد ان يهب لنجدتنا والدم والدموع تسد حنجرتنا وصوتنا ينخفت رويدا رويدا .. ويظل البعاتي بعاتي وإن رقص على جثثنا ..
*عبدالباقي جبارة .*
٩ سبتمبر ٢٠٢٣م