السُودانُ الجديد، هو السُودانُ العَميقْ، بل هو بالضبط الأبعدُ والأكثرُ عمقا في التاريخ.
هو سودانٌ لا يَشبهُ إلا نَفسهُ، ليس كمثلهِ شيء، وبالتالي فإنه نَموذجٌ يَصعبُ الحصولُ علي مادته مُنفردةً أو مَبذولةً في الطبيعة دون حَفرٍ عَميقْ.
فقد ظل السودان على مر تاريخه وعلى علاته الراهنة، وطنٌا حمّالُ أوجهٍ، يُجيدُ الاختباءِ، وراءَ ظلال الأسماءِ، وجوقةِ الأصداءِ.
تختبيء الصدفة فيه في مُنعطفِ الطريق، علي قول شاعره محمد المكي ابراهيم.
والعسل البريئ فى الرحيق،
وطائر الفينيق فى الحريق.
وبمثلما “يختبىء هذا الحريق عند “ود المكي” فى الشرر.
يختبىء كذلك البستان فى الوردة، والغابة في الشجر.
المهم بين اكمام “وردة السودان” هذا الوطن البائس الفقير، المستضعف الي يومنا هذا من الغير، هذا الوطن الذي لا زالت تَزدريهِ أعينُ بعضٍ من الناسِ، وتَلعنهُ السِّنةُ بعضٍ من بَنيهِ، لا زال هذا الوطنُ يُخبيءُ، بين طياتِ وتضاعيفِ سِيرته الغريبة “بستان العالم” الفسيح، وطائفةً من اسرارِ الكونِ الأُخري، بل وشيئا من أسرارِ الوجودِ البشريِ بِرُمته علي ظهرِ هذا الكوكب، هذا الوجود الذي إعترفت مؤخرا اثنتان من أكبر الجامعات في عصرنا “اكسفورد وهارفارد” بأن السودانَ هو أصلُ وجودهِ.
وعطفا علي ما سبق فإني أجدُ أن قصة السودان في هذا الكون والوجود، ربما تطابق عندي الي حد بعيد في غموضها وغرابتها، قصة نبي الله “موسى”، والعبد الصالح “الخضر”، الواردة في سورة الكهف.
إذ منذ أن أوحي سبحانه وتعالى لموسي عليه السلام بأن ثمة عبدا أعلم يقيم ب”مجمع البحرين’، الذي أُرجحُ بالطبع أنه “مقرن النيلين” الحالي.
أتصور أن “السودان” قد صار الي ما يشبه المجال الحيوي لممارسة أنماط من السلوك والتصرف، تبدو في ظاهرها وكأنها تجافي العقل والمنطق.
بل وبدا لي كأن هذا السودان قد أضحي هو نفسه أسيرا لهذا “النموذج الخضري” المدهش، الذي تتساوق فيه المنن بطي المحن، والمزايا في طي البلايا.
نموذج أباح لعرابه، خرق سفينة “مساكين البحر” بحسبان ان خرق هذه السفينة خير لهؤلاء المساكين من سلامتها، وأن قتل فلذة كبد “ابوين مؤمنين” يأتي في سياق الرحمة بهما، وأن بناء جدار بقرية البخلاء قد أصبح بحكم الوقت والعلم المؤتي، واجبا علي هذا الرجل الصالح، لسترِ وحفظ كنز أيتام لم يبلغا أشدهما عن أعين سابلةٍ عُرفوا بِلّؤمِ الطِباعْ.