اشعلت ثورة ديسمبر المجيدة جذوة النضال واستنهضت الهمم وتم تصنيفها أنها من اعظم الثورات في تاريخ البشرية بسلاحها الغير مسبوق وهو (السلمية) حيث كانت وما زالت قوتها في سلميتها .. شعارها الوعي والإستنارة وبذل الغالي والنفيس والصبر وضبط النفس وعدم الإستجاية لإستفزاز العدو الغاشم وهذا منتهى الوعي ودرس بليغ في تعزيز الصمود والإصرار على تحقيق الهدف والغاية .. لم يكن طريق الثورة معبدا بل كان ومازال مسرحاََ تراجيدي على خشبته حكاماََ طغاة لايعرفون إلا لغة العنف والبطش والترهيب ومن خلفهم اصحاب الفردوس المفقود والاندلس الضائع يدفعهم الخوف على ماتبقى من مصالح والخوف على سوآتهم التي امتدت على مدار ثلاثين سنة لم تكن لها علاقة بالدين ولا بالإنسانية ولا بقيمنا السودانية المتجذرة في السماحة والخلق ولذلك هم يعرفون أن أحد أركان هذه الثورة هى العدالة وهذه مفردة مرعبة لهم رسماََ وقولاََ ومعنى حيث غضت مضاجعهم لأنه بين ميزان العدالة تكمن اعماق قصة الظلم امام القاضي العدل وتستقيم الامور وهم يبغونها عوجا .. لذلك صوت الحق والعدل يرهبهم أينما كان وحيثما وجد فهم لايستطيعون العيش إلا في مستنقع الظلم والفساد الآسن وهذه هى البيئة المناسبة للتكاثر .. لذلك هم الساعد الداعم للبطش ووأد الثورة
كان شعار الثورة (تسقط بس) او بالأحرى هو الشعار الذي هتف به التيار الغالب للثوار حيث كان يحمل في طياته كثيراً من الإستفهامات والأسئلة والغموض لأن (بس) هى سقف لايتناسب مع مفاهيم ثورة التغيير لأن التغيير ليس له سقف بل بعد السقوط يبدأ مشوار العمل الطويل للبناء ولكن أعتقد أن هذا الشعار له إسقاط نفسي حيث كان طول عهد الظلام له اثر كبير لتبني هذا الشعار وهذا بطبيعة الحال من دواعي الفعل التراكمي وطول الأمد ولذلك تكون النتيجة هذه التداعيات الإنفعالية ..
انتصرت الثورة حيث كان الهم الكبير هو سقوط النظام ولكن حدث الفراغ بعد السقوط لأن برنامج الفعل الثوري هو الاساس ولم يكن هناك برنامج موازي لإعداد شكل ومضمون المرحلة ما بعد السقوط بما فيها قيادة الفترة الإنتقالية وإعدادها جيدا حتى تساعد في عملية الإنتقال الديمقراطي
قاد الحراك الثوري منذ البداية تجمع المهنيين حيث كان ملهماََ للثوار ونظَّم شكل العمل الثوري وجدولة الخروج والحشد لمليونيات هادرة زلزلت كيان النظام البائد ودولة الطغيان وهو التيار القائد الموجود على الأرض مع الثوار ومن الجانب الآخر الحرية والتغيير التي تمثل الساعد السياسي والتي تكونت من الوان الطريق السياسي المعارض لدولة الإنقاذ بحاضنته السياسية والتي تتكون من التيار الإسلامي وعلى رأس هرمه المؤتمر الوطني القائد الفعلي .. ولذلك كان العمل الثوري على مستوى من القوة والثبات بمكونه الأساسي شريحة الشباب وكانت شعارتهم ومازالت تتسم بقدر من الوعي غير مسبوق وقد يكون مصدر الدهشة أن الشباب عادة ما يجنحون الى الإنفعال لإثبات الذات وهذا بحكم المرحلة العمرية ولكن ان يقودوا عمل تغيير ثوري بهذا القدر من المسؤولية والحكمة والوعي حتى يسقطوا أعتى الأنظمة الشمولية والإستبدادية في المنطقة فهذا يعني ان مستوى الوعي والأدراك فاق الوصف والتصور ..
بعد أن تم إسقاط نظام البشير وذمرته ظهرت على السطح أسئلة منطقية وملحة عن كيفية قيادة المرحلة الإنتقالية و تأسيس قواعد الإنتقال الديمقراطي حتى يتم الوصول للدولة المدينة والتي هى الحلم التي من أجله سالت الدماء وبذلت الأرواح .. ومن هنا بدأت رحلت الشقاء مع عدم تقدير الامور تقديرا سليماََ من جانب قوى إعلان الحرية والتغيير مع شراكتهم المشؤمة مع العسكر لإدارة المرحلة الإنتقالية .. وقد كان رأيي مع عدد كبير من الناس أن لا تتم أي شراكة مع العسكر وأن يتم تفعيل مشوار العمل الثوري وإن طال حتى تكون مدنية خالصة وعندها يكتمل النصر حقيقة أما الإستعجال لإدراك النتيجة بمثل هذه الشراكة البائسة فهذا يعني ضرب الثورة والثوار في مقتل وهذا ما حدث بالفعل وقد كان وهذا أمر لايحتاج الى حصيف لأن الشريك هو اللجنة الامنية لنظام المخلوع البشير فماذا تنتظر منهم !!!
على كل تمت الشراكة لإدارة المرحلة الإنتقالية وتم إعداد الوثيقة الدستورية كمرجع وأساس دستوري للمرحلة مع ما بها من عيوب وثغرات لا تحصى ولا تعد .. وهنا بدأ يظهر ضعف الحرية والتغيير أمام المكون العسكري الشريك وظهر سوء نية المكون العسكري بشكل جلي وواضح تصريحاََ وتلميحاََ من العسكر حتى تمت كارثة فض الإعتصام والتي تغير بعدها المشهد تغييرا جذريا وبدأت تسقط معه الأقنعة واحداََ تلو الآخر
سقط قناع العسكر المزيف اصلا حيث كان لضرورة المرحلة بعد أن كان المد الثوري في قمته واسقط النظام البائد .. لبس العسكر قناع الخداع والمكر بأنهم مع الثورة والثوار رغم معرفة الكثير بأنه تكتيك مرحلي فرضته ظروف المرحلة ولأنهم هم إمتداد طبيعي لنظام المخلوع وهم لجنته الامنية ولكن عدم التقدير السليم من جانب قوى الحرية والتغيير وتسرعهم قاد الى هذه الشراكة الكارثية .. وبعد فض الإعتصام اصبح العسكر اكثر شراسة في المحافظة على كرسي الدماء ليس حبا فيه ولكن خوفا من عاقبة المحاسبة في حال تفريطهم وإستلام المدنيين وهنا يصبح حالهم كحال من حرق مراكبه بعد العبور للضفة الأخرى وليس له خيار إلا مواصلة المسير او الغرق في حالة الرجوع وهنا سقط قناع الزيف للعسكر وظهر الوجه السافر والموغل في البطش والإرهاب والظلم والفساد ..
ثم بعد ذلك ارتفع سقف الطلب من التحول المدني والديمقراطي الى قضية التحقيق في الدماء و ضرورة محاسبة المجرمين واصبح هدف إستراتيجي لا يقبل المساومة .. وهنا وبفعل ضغط الشارع والجماهير تم تكوين لجنة التحقيق بقيادة المحامي اديب وهى أقرب الى لجنة صورية تمتص غضب الشارع مؤقتا وتقوم بشكل أساسي على سياسة التسويف والتطويل ويستحيل ان تخلص الى نتائج قطعية مهما طال الزمن وكذلك إنكشف القناع المكشوف أصلا لمولود وُلد ميتاََ ..
ومن أسوأ افرازات هذه الشراكة هى الوثيقة الدستورية والتي تبرأ منها واضعوها ومن أسوأ افرازات الوثيقة الدستورية نفسها هى اتفاقية سلام جوبا حيث كانت وبالاََ على البلاد وكانت كارثية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني وقد كان الكل يحسبها خير ولكن وضحت الرؤيا بعد فوات الأوان وذلك لأنها كانت عبارة عن ترضيات ومناصب لقادة كنا نحسبهم انهم يقاتلون من أجل قضايا عادلة ولكن حدث العكس وان اصحاب الوجعة المتضررين في معسكرات النزوح لم يستفيدوا شئ من ذلك الحبر المسكوب على ورق الوثيقة الدستورية وإنما كانت الفائدة للقادة وكذلك سقط القناع ..
كل ذلك والثورة مستمرة والشعارات المطلبية والهتافات تشق حناجر الثوار بقيادة الجسم القائد تجمع المهنيين ولكن حدث شرخ عظيم وصدع كبير في هذا الكيان الملهم للثوار حيث القت الخلافات السياسية لقيادة التجمع داخل قوى إعلان الحرية والتغيير بظلالها السالبة على تماسك هذا الكيان بعد الإنتخابات التي كانت نتائجها اختيار سكرتارية جديدة .. وهكذا سقط قناع آخر على درجة من الأهمية اسقطته دوافع الأنا والذاتية عندما بعدت عن الغيرية والهم العام والهم الوطني والتفتت الى مستوى المحاصصة والتمثيل في مرحلة حرجة من عمر الثورة
استمر الحال هكذا وبدأ مرض الخلافات والمحاصصات يدب في جسم يمثل الذراع السياسي الفاعل للثورة وهو قوى إعلان الحرية والتغيير حيث لم تكن على قلب رجل واحد في رؤية التغيير بل هناك احزاب داخلها اصبحت اشد ضراوة ومعارضة وانشق الصف وزاد الضعف والعسكر يراقب الموقف ويتحينون الفرص بالتصريح والتلميح للقضاء على ما تبقى من شتات حتى جاء يوم الإنقلاب المشؤم الذي قاده البرهان حيث فقدنا على اثره مكتسبات كبيرة حققتها الثورة خارجية من المجتمع الدولي منها إعفاء الديون ومشاريع تنموية موعودة ومكتسبات داخلية أيضا منها الإستقرار و تحسن مستوى المعيشة بشكل نسبي .. وجاء مع الإنقلاب كوارث كبيرة هددت النسيج الإجتماعي وكان هذا من بنات افكارهم وهم الداعمين الحقيقين لها منها قفل الشرق وقفل الميناء وتداعياتها التي لم يتعافى منها الوطن حتى الآن وستظل الى وقت ليس بالهين تعوق مسيرة التنمية ووحدة التراب والوطن وتعطي إشارات سالبة للآخرين وهى مهدد حقيقي للوحدة الوطنية .. ثم اقدم الإنقلاب على خطوة لم تخطر على البال حيث اعاد منسوبي النظام البائد الى مواقع حساسة خاصة الأجهزة العدلية واعاد لهم الأموال المنهوبة .. ومع ذلك فشل الإنقلاب فشلا ذريعا حتى صرح بذلك الرجل الثاني في الدولة واصبح البرهان في وضع لايحسد عليه فهو محاصر من المجتمع الدولي ومن الداخل ولذلك ظهرت على السطح ظاهرة التسويات الثنائية همساََ وجهراََ وبعلم الرقيب الدولي .. وكل ما ذكر تفاوض بين قوى إعلان الحرية والتغيير والعسكر سراََ سارعت (قحت) ونفت الخبر حيث أنها تتبنى شعار لا تفاوض لا شراكة لا مساومة بعد حدوث الإنقلاب ولكن يبدو أن امر الكتمان للتفاوض سرا مع العسكر لم يدم طويلا حيث خرجت (قحت) في مؤتمر صحفي تعلن عن إتفاق إطاري تمهيدا للإتفاق النهائي وهنا سقط آخر الأقنعة وإنهارت أسوار المدينة الفاضلة واصبح الشعار الثلاثي في طي الماضي وصداه يملأ الأمكنة عبر الأزمنة والتاريخ .. وكعادة البرهان يبدو انه تراجع من المضي في مشواره مع قحت حيث خرجت في آخر مؤتمر صحفي تدعو للتصعيد الجماهيري حيث وجدت الجماهير غادروا المسرح ولم يعولوا عليهم بعد الآن ..
بعد سقوط الأقنعة المهترئة اصبح الرهان على الفعل الجماهيري والشارع مع لجان المقاومة ولابد من دعم لجان المقاومة والعمل على تعزيز وحدة كيانها و العمل على تأسيس قيادة سياسية قادرة على إستلام المبادرة مع تطوير عملها الثوري على الأرض حتى لا يحدث فراغ مثلما حدث من قبل بعد نجاح الثورة
ومضة:
هى روح متعبى بفوضى الجسد منهكة بفكر العقل ووعي السؤال …….