وهنا أيضا يتقاطع شارعين علي جسد.
جسد هو جسد هذا الوطن المثخن بالجراح، جراحه التي لا زالت طرية، مفتوحة، ترعف يوميا منذ أن كتب هؤلاء الجنرالات الخمسة اول سطر بالدم في كتاب سيرتهم، قبل ثلاثة سنوات، في مثل تاريخ يوم الغد من العام ٢٠١٩.
ذلك اليوم الدامي الذي ولغت فيه جحافل قوات تحت إمرة هؤلاء الجنرالات في أول دم طاهر حرام، بكافة المقاييس.. مقاييس الانسانية، والوطنية، والدين.
انه دم صائمين لربهم متقربين اليه زلفي، دم مقاومين سلميين لجور سلطان غاشم.. دم سفح على أعتاب وبوابات قيادة جيش يفترض انه جيشهم، وجيش بلادهم الذي من شأنه ان يحميهم، ويحمي البلاد بما فيها، ومن عليها.
لقد تخير هؤلاء القتلة الذين نفذوا تلك المجزرة بتدبير شيطاني محكم ودقيق.. ان يحيلوا غداة يوم عيد مبارك يتهيأ فيه الناس عادة لفرحين، إلى يوم حزن يتشح بالسواد.
ليضحي الدم هو المداد المتاح الذي كتب به الجنرالات الانقلابيين اسماءهم في سفر التاريخ.
بل لقد صار دم الثالث من يونيو الذي تحل ذكراه المشؤومة غدا.. أثقل دم في تاريخنا على الاطلاق، دم لازالت تنوء بحمله العصبة المتجبرة أولى القوة، تئن تحت وطأته أقدامهم لتغوص اكثر في وحله كلما أستشعروا قرب يوم للسؤال عنه، أو للحساب عليه.
فقد حق لأسرة أشهر شهداء ذلك اليوم “عبدالسلام كشة” ان ترفض محاولة بعثة الأمم المتحدة إحالة ذكرى اسود يوم في التاريخ القريب لمجرد محطة احتفائية دون فعل يوازي قبح ابشع جريمة ضد الانسانية ارتكبها تتار هذا العصر.
جريمة لخصها تقرير صادم صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أشار وفق صحيفة “يو اس توداي” الي أن ” اكثر من 15 ألف من الافراد شاركوا في فض ذلك الاعتصام، بينهم مدنيين من المليشيات التي تتبع لنظام البشير الاسلامي” وأشار المصدر الى ان لديه مايثبت ان الف وثمانمائة من المعتصمين قتلوا وحرقوا، ودفنوا في مناطق مختلفة من اطراف مدينة امدرمان. وان اكثر من اربعمائة وسبعين اخرين تم تنفيذ حكم الاعدام فيهم ليلة “فض الاعتصام”.
إذ يرجح وفق روايات شهود عيان أن القوات التي نفذت المذبحة تتكون من هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن السابق، إلى جانب عناصر من قوات الدعم السريع، والشرطة الشعبية، وكتائب الامن الطلابي ، اضافة لقوات مكافحة الشغب، وكتائب الظل التي كشف عن وجودها علي عثمان محمد طه، وكتائب يعتقد انها تتبع لقوات الدفاع الشعبي جاء بها احمد هارون، اضافة لقوات الأمن الشعبي التابع للتنظيم الاخواني.
هي كلها فصائل عقائدية مسلحة عالية التدريب، كان من المنتظر بفضها للاعتصام وبتلك الوحشية المفرطة ان تكون قد كسرت عزيمة وإرادة الثوار واجبرتهم على التراجع، توطئة لاستعادة النظام اراضيه التي فقدها تحت وطأة الضغط والحصار الجماهيري المطبق على مقر قيادة الجيش.. الامر الذي افقد اللجنة الامنية سيطرتها على اعصابها وعلى الأوضاع.
وبالتالي فإن “فض الاعتصام” كان يعد آخر محاولة حينها لاعادة الإسلاميين إلى السلطة بعد أن الغي البرهان مباشرة اتفاقه التمويهي مع تحالف الحرية والتغيير في الرابع من يونيو ٢٠١٩، مؤرخا لانقلابه الأول ضد الثورة ولصالح الإسلاميين بعد يوم واحد من تنفيذ ابشع جريمة.
تلك الجريمة الصادمة التي كان يعول على أن صدمتها ورعبها كافيان لهزيمة الثورة، لولا الدرس القاسي الذي لقنه الشعب لهؤلاء الجنرالات واستطاع من خلاله ان يقلب الطاولة على رؤوس التنظيم المدبر ومجلسه العسكري بضربة واحدة في الثلاثين من يونيو.
المهم فإن هذه الفصائل الخاصة التي صنعها الاب الروحي للحركة الإسلامية حسن الترابي على عينه منذ سبعينات القرن الماضي تقوم علي ان الاستحواز على مكامن القوة المادية المسلحة للدولة، يكفي وحده لاحكام السيطرة على الدولة برمتها، وبالتالي على مستقبل حكم البلاد.
َحيث أقر الترابي في برنامج شاهد على العصر بقناة الجزيرة: انهم قد بدأوا بإدخال عناصرهم في الجيش منذ السبعينات، فضلا عن انهم قد اسسوا تنظيما أمنيا خاصا فاقت مقدراته وقوته مقدرات جهاز الأمن في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري.
وعطفا على هذا التصور يعتقد غالب الاسلاميين ان انقلاب الثلاثين من يونيو جاء كميلاد لدولة الحركة الإسلامية التي جادل البشير شيخه الترابي حولها بعد اعلان الاخير حل هذه الحركة نفسها بقوله (اي البشير) : قلت له الدولة ملك من يا شيخ حسن؟.. فنحن مقتنعون بأنها ملك للحركة الإسلامية.
واستطرد البشير مذكرا شيخه بأنه يوم ان اتاهم وهم ضباط بالجيش وقال لهم: إن إخوانهم قرروا تسلم السلطة.. اضاف البشير انهم كضباط لم يسألوا الترابي حينها من هم إخوانهم الذين قرروا تسلم السلطة واردف البشير: بل قلنا له سمعا وطاعة.
من تاريخ ذلك اليوم والي يومنا هذا اعتقد ان كثير من الدلائل تشير الي ان أجهزة الدولة العسكرية صارت الي ما يشبه غرفة تحكم وسيطرة سرية لحركة الإسلام السياسي على الحكم بل وعلي البلاد.
فالاستاذ المحبوب عبدالسلام في كتابه “الحركة الإسلامية.. دائرة الضوء، وخيوط الظلام” يقول ان الحركة الإسلامية استثمرت انخراطها في المصالحة مع نظام نميري بتوسعها في اختراق الأجهزة النظامية بتجنيد ضباط في الجيش والشرطة، وفي تدريب طائفة من عضويتها المدنية عسكريا لانفاذ خطة ترمي لحماية الحركة انذاك تطورت لاحقا لخطة اعداد لاستلام السلطة بانقلاب عسكري وهو ما حدث بعد ذلك في العام (٨٩).
فالبشير اعترف في وثائقيات قناة العربية بتحكم الحركة وسيطرتها على الدولة بقوله: “الإخوان يتواجدون الان في كل مفاصل الدولة.. كل مفاصل الدولة يمسك بها الاخوان.. والناس الذين عابوا علينا اننا اتينا بالإخوان الان شاهدوا ما حصل بمصر، لأن مفاصل الدولة كلها هناك ضد الاخوان ازالوهم في يوم واحد”.
وعلى عكس ما حدث لإخوان مصر وفق تفسير البشير فإن الردة والتراجع الكبير عن أهداف ثورة ديسمبر المجيدة بعد انقلاب البرهان تؤكد ان سيطرة الحركة على السلطة في البلاد لم تتأثر باقتلاع رأس النظام عمر البشير، ولم تتراجع بالطبع.
ويعتقد على نطاق واسع ان من دواعي انقلاب الجنرالات في 25 أكتوبر الماضي على سلطة الفترة الانتقالية، تنامي الضغوط على لجنة نبيل اديب لكشف نتائج التحقيق حول مجزرة القيادة العامة.
وبالطبع فالانقلاب هو عين ماحذر من احتمال وقوعه المحامي نبيل اديب رئيس لجنة التحقيق الوطنية المستقلة التي شكلها رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك في سبتمبر من نفس العام.
حيث قال اديب لمجلة “نيو لاينس” الأمريكية: (إن اعلان نتيجة التحقيق يمكن أن يؤدي إلى انقلاب عسكري، أو اضطرابات جماهيرية في الشوارع).
وتقول المجلة التي التقت اديب في النادي القبطي بالخرطوم: (إن المحامي نبيل يدرك مدى حساسية عمله في لجنة التحقيق، و ما سيكون له من تأثير كبير، بل ومدمر على بلده).
ولعل هذا ربما يفسر اسباب تأخر اللجنة في إعلان نتائج تحقيقاتها الي يومنا هذا رغم مضى اكثر من ثلاث سنوات على تكوينها.
والي ذلك يبدو ان مسألة اماطة اللثام بالكامل عن حقيقة الجناة في مجزرة القيادة العامة، قد باتت تشكل هاجسا مفزعا يفترس جنرالات المكون العسكري ليل نهار، والي حد دفعهم لادراجه ضمن اهم الشروط السرية لاتفاق جوبا مع الحركات المسلحة الذي تم على يد اثنين من قادة المكون العسكري هما حميدتي وكباشي.
وكان مني اركو مناوي قد اعترف في وقت سابق بوجود اتفاقيتين احداهما معلنة فوق الطاولة، والأخرى سرية تحتها.
وفي ذات السياق كشف المحامي والحقوقي والقيادي السابق بحركة تحرير السودان عبدالعزيز عثمان سام عن بنود وتفاصيل هذا الاتفاق السري التي لخصها في إغلاق ملف التحقيق في مجزرة اعتصام القيادة، اضافة لعدم تسليم رئاسة المجلس السيادى للمكون المدنى في الإنتقالية، ثم المشاركة في إبعاد أحزاب تحالف الحريةالحكومة والتغيير من السلطة وفق ترتيبات معينة، والالتزام بعدم المطالبة بتسليم أى سودانى للمحكمة الجنائية الدولية،
فضلا عن الإعتراف بإستقلالية قوات الدعم السريع وخصوصية تكوينها.
اما مصير انقلاب البرهان الثاني، انقلاب ٢٥ اكتوبر.. الذي هو بمثابة الانقلاب العسكري الثالث للحركة الإسلامية، فإنه لا يزال يغالب سكراته الاخيرة على كف العفريت الألماني فولكر بيرتس، الذي لم يجد الاسلاميون بدا من لعنه على قارعة الطريق؛ بعد أن يأسوا من إمكانية استمرار انقلابهم على قيد الحياة.