ادرك تماما انني أمارس عبثا هنا بمحاولتى الكتابة فى حيّز وزمن محدودين عن أمى “فاطمة بت مكى”ولكن أدرك أيضا إمكانية تحول العبث إلى نبل بليغ.
لو قدر لى حتى الآن أن أكتب شيئا عن سيرة حياتى فسأسطر أسفارًا موسوعية عن إمرأة إسمها “فاطمة بت مكى” وقد أفعل ذلك مدى الحياة دون إكمال فصول الرواية فمنها بدأت حياتى وعاشت فيها حتى لحظة رحيلها فى السابع من أبريل الماضى وتركت فى حياتى أثرا وإرثا قد تعجز الكلمات عن إحصائه ولو تحولت البحار مدادا لقلمى.
نشأت فى مهدها وعندما بدأت صغيرا أدرك مكنونات الأشياء عرفت أنها أمى ومن تلك اللحظة بدأت تسرد لي قصص الحياة بروح دعابة ممتعة.
أولى القصص أنها كادت تلدنى فى زرعها فى “وادى طاورو” فى “قوز حمد الله” فى قرية الملم فى موسم الخريف ثم عناية الله التى حلت عليها لتمكنها من ركوب حمارها ووصول القرية لتلدنى مع حلول وقت العشاء ثم العودة إلى الزرع بعد بلوغ أربعين يوما ووضعى وحيدا وسط الأعشاب ألهو رضيعا غير عابئ بشئ وهي تفلح الأرض لتؤمن قوتنا لأنشأ طفلا وسط حقول خضراء ثم لا تستقيم لى حياة بعد ذلك إلا وسط الوديان وحقول المزارع وغابات الأشجار.
تلك القصة كانت بداية لتفاصيل دقيقة ظلت أمي تثرى بها حياتى حتى أخر يوم فى حياتها التى جاوزت تسعين عاما بكثير وتحولت تلك التفاصيل إلى نهج خلق أثرا عميقا فى حياتى بل رسم شخصيتى وصارت تدور حول محور عظيم إسمه “فاطمة بت مكى” وظللت أردد كثيرا أننى “إبن أمى” خاصة وأن والدى رحل مبكرا ولم تتردد “فاطمة بت مكى” فى تولى دور الأم والأب معا.
قدم جميع أشقائها إلى الحياة ورحلوا عنها فى غموض محير إلا فاطمة. فقد عمر جميع إخوانها وإخواتها لأبيها العمدة آدم مكى الذى جاوز مائة عام بقليل وكذلك والدتها الحبوبة مريم حسب الله “أم الطاهر” التى عاشت هى الأخرى مائة عام وازدادت ثلاثا فكانت أمى تقول لى بيقين قاطع أنها ستبلغ المائة وقد إقتربت منها أما الغموض فهو رحيل جميع أشقائها الأربعة وشقيقتها الوحيدة أم الحسن “أمو” فى سن مبكرة دون بلوغ الستين وقدر لها وحدها أن تعيش طويلا كما عاش والدها ووالدتها.
لم تولد فى ترتيب مميز كأن تكون أكبر الأبناء أو أصغرهم ولكنها سبقت فى الميلاد شقيقها أصغر الأبناء مربي الأجيال الأستاذ عبد الرحمن آدم مكى ولعل فى ذلك سر يفسر إصرارهما الإثنين على البقاء رفيقين متجاورين فى كل المزارع التى يمتلكانها فى القرية شرقا وغربا وجنوبا غير أن الرحيل المبكر لإخوانها وضعها أمام دور متميز قامت به ببراعة فائقة فقد تحولت إلى أم ترعى أبناء أربعة أشقاء وشقيقة واحدة إضافة إلى إبنيها الوحيدين “لقمان وعزيزة”.
عاشت أمي جل حياتها ترينى ألوانا من الحب ليس لى وشقيقتى كأبناء بل لجميع أشقائها وشقيقتها ولم تمض ليلة دون أن تروى لى مشهدا من مشاهد حبها لأحدهم منذ أيام الصبا الباكر فى قرية “كيلا” التى شهدت ميلادهم جميعا وإنتهاءا بقرية الملم التى أسسوها وصنعوا فيها أروع قصص الحياة وحولوها إلى أزهى وأبهي مهد نشأنا فيه جميعا آل مكى ونهلنا منه حب أهلنا هناك وحب تلك البقع الطاهرة التى تمتد بساطا بهيا يتسامى غربا ليعانق القمم الشرقية لجبل مرة وحقا كانوا أهل قمم ومنهم صنع المجد حيث آوت “كيلا” الأمير زكريا محمد الفضل عبد الرحمن الرشيد والد السلطان على دينار وحينما توفى الأمير زكريا تزوج جد والدتى مكى والدة الصبي علي دينار وتربى على يديه بين أبنائه فى الملم حتى صار سلطانا وإتخذ من الفاشر عاصمة له وتربت فى الملم أيضا إبنة عم السلطان على دينار السيدة الميرم مريم نورين محمد الفضل عبد الرحمن الرحمن الرشيد والدة الإمام عبدالرحمن المهدى.
تعلمت من أمى نبل الألم. نعم للألم نبل مع “فاطمة بت مكى” فقد كنت قريبا منها فى كل لحظات رحيل أشقائها وكانت في فى أحايين كثيرة تقطع وصل الحديث وتهرب إلى صمت عميق فتنساب الدموع من عينيها وتروي لحظات الرحيل الأخيرة، ماذا رأت فى المنام وكيف صدقت الرؤيا وطابقت مشاهد صعود الروح إلى السماء وسرعان ما تبتسم ثم تروى لى روايات كنت أحسبها أساطير. عند الرحيل المبكر لشقيقتها الوحيدة أم الحسن التى كنت أقضى معها جل وقتى فى أيام طفولتى كنت أبكى بكاءا مريرا فقد كانت هى الأخرى أمى التى لم تلدني وشعرت بأننى يتيما وقد شعرت أمي بذلك. كنا فى أحد الليالي المقمرة نجلس فى فناء بيتنا وأمى تروى لى قصصا عن جلال الموت وصعود الروح، قالت لى إن الموتى يلتقون كل ليلة يتسامرون ولكن عندما يتذكرون لحظة قبض الروح ينفض سامرهم وكانت عندما تعود من المزارع منهكة جراء يوم عمل شاق تقول لى “سأنام الليلة نومة تفرح أهل القبور”، أسألها هل يفرح أهل القبور الموتى ولماذا يفرحون فتجيبنى نعم يفرحون لأنهم سيستقبلون زائرا جديدا ثم تضحك وتقول لى “أرهقنى التعب”.
عاشت أمى ورحلت تؤمن بوجود حياة بعد الموت وكانت حريصة على طمأنتى بملاقاة أمى الأخرى خالتى أم الحسن مرة أخرى فالحياة عندها رحلة منتظمة يعيش فيها الإنسان ردها من الزمن ثم يفارق أعزاء يسبقونه إلى عالم آخر ثم يلحقهم ويلتقون من جديد يعيشون يتسامرون يبنون حياة فى عالم غيبى لا يدرك سره إلا من سبقونا إليه وتلك هى خلاصة كل الآلام التى يكابدها البشر ساعات الرحيل فهى لدى “فاطمة بت مكى” مجرد فواصل زمنية بين وحياة وأخرى ربما تكون أروع من حياتنا فى هذه الدنيا.
رأيت بعينى كيف تحولت أمى إلى أقوى ذاكرة يلجأ إليها آل مكى لتتبع سير الأسرة وسير كل أسر وممالك دارفور وعشت معها كل سنوات عمري أصغى لروايتاها العميقة الضاربة فى عمق التاريخ فقد حدثتنى عن سير أمم اعرف عنها قليلا وأجهل كثيرها وهى لا تضاهيها فى ذلك المخزون المعرفى سوى عمى الراحل الشيخ الورع محمد عبد الرسول على وإبنه إبن خالتى الطيب محمد عبد الرسول.
كثر ترحالى فى سن مبكرة من عمرى ففى عام 1976 ذهبت إلى نيالا للإلتحاق بالثانوية العامة ثم الثانوية العليا وكنت أقضى معها فى الملم أربعة أشهر فقط فى العام هى مدة الإجازة الصيفية ثم غادرت دارفور إلى الخرطوم عام 1982 لألتحق بالجامعة. بعد ذلك التاريخ حولت بيتها إلى ما يشبه قرية صغيرة آوت فيه عشرات من أقربائها بعضهم تلاميذ وتلميذات إجتهدت فى توفير بيئة تمكنهم من التعليم فى مدارس الملم الإبتدائية والثانوية العامة تماما كما إجتهدت فى توفير كل المعينات التى تمكننى من إكمال تعليمى حتى التخرج من الجامعة وظلت أمى حتى آخر لحظة فى حياتى تعلمنى دروسا فى شتى مناحى الحياة فهى تدرك أهمية القلم ولكنها تدرك أيضا أن “القلم ما بزيل بلم”.
لقد توقفت تلك الدروس فى السابع من أبريل الماضى وذهبت فاطمة بت مكى إلى حيث تعيش الآن إلى جوار ربها مع شقيقتها أم الحسن وأشقائها أبوبكر والطاهر وعبدالرحمن وعمدة الملم إبراهيم أما أنا فلا زلت وسأظل متخيلا روعة المشهد عند إلتقاء أولئك العظماء مجددا فى ذلك العالم النبيل عالم سمو الأرواح وتآلفها فى حياة هى حتما أنبل مما نعيش.