يشكل غزو أوكرانيا من جانب روسيا تطوراً مهماً بشأن طبيعة توازنات النظام الدولي بين الأقطاب الفاعلة فيه، وهو أمر بالتأكيد سيكون له انعكاساته على أفريقيا في عدد من الملفات المهمة، خصوصاً ما يرتبط بمدى اتساع النفوذ الروسي بالقارة الأفريقية، وطبيعة التوازنات الجديدة بين الغرب عموماً وكل من الصين وروسيا خصوصاً بعد الانسحاب الفرنسي من مالي وفشل المقاربات الفرنسية المدعومة دولياً في تحجيم ظاهرة الإرهاب، وخفض مستوى المهددات الأمنية لإقليم الساحل الأفريقي المؤثر بدوره على دول شمال أفريقيا العربية.
ولعل ما أود التركيز عليه في هذه المقالة هو طبيعة ارتدادات الغزو الروسي لأوكرانيا على النظم السياسية الأفريقية، فمن المعروف أن النموذج السياسي الروسي شمولي غير ديمقراطي، ولكن علينا الاعتراف أن له جاذبيته الخاصة من حيث القدرة على الحفاظ على متطلبات أمنه الاستراتيجي في بيئته الجيوسياسية، وهو أهم دوافع الغزو الروسي لأوكرانيا بعد ممارسة الغرب تحرشات غير محسوبة بروسيا في هذا المجال، كما أن لبوتين شخصياً جاذبية في النطاق الشعبوي العربي والأفريقي بعد أن استطاع أن يستعيد القدرات الشاملة لروسيا، ويجعلها منافساً لأقطاب عدة في النظام الدولي.
ومع واقع أن الوجود الروسي الأمني والعسكري لا يستهان به في أفريقيا حالياً، ومع حقيقة أن هذا النفوذ لا يبدو ملهماً فيما يتعلق بتطوير النظم السياسية الأفريقية من حيث الالتزام بالحوكمة والحكم الرشيد، أي التطور الديمقراطي فربما يكون هنا التساؤل مشروعاً حول مستقبل الانقلابات العسكرية في الاستمرار من دون وجود الضغط الخارجي المطلوب لاستعادة العملية السياسية، وهنا نذكر مالي وبوركينا فاسو وكينيا والسودان.
وفضلاً عن هذه الانقلابات، فإنه ربما يجوز التساؤل أيضاً عن التداعيات الاستراتيجية لتوسع النفوذ الروسي على الدول الديمقراطية المستقرة في أفريقيا مثل غانا وجنوب أفريقيا ونامبيا على سبيل المثال لا الحصر، في ضوء تحديات اقتصادية كبيرة يتسبب فيها تغير المناخ والتضخم العالمي المؤسس على نقص الإمدادات وتداعيات فيروس كورونا، وكلها تحديات مؤثرة في الاستقرار السياسي للدول.
في البداية لا بد من رصد أن العلاقات الأفريقية الغربية تعاني سياقاً مأزوماً على نحو كبير في ضوء تقويمات راهنة للنخب الأفريقية سواء الرسمية أو غيرها لسببين، الأول أن المقاربات الغربية لتطوير الدول الأفريقية التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، قد تأسست على مشروطيات صندوق النقد والبنك الدوليين التي لم تراع الهياكل الاقتصادية، ولا البني الاجتماعية والثقافية للقارة، إذ نتج من هذه المقاربات اتساع ظاهرة الفقر بما أنتجته من عدم استقرار سياسي لدولها، فضلاً عن دعم القدرات البشرية للتنظيمات الإرهابية عبر توفير هذه التنظيمات سبل عيش لجيوش من الفقراء، وكذلك اتساع ظاهرة الهجرة غير الشرعية كمهدد للأمن الأوروبي.
أما السبب الثاني للإخفاق الغربي بأفريقيا فيتمثل في المقاربات الأمنية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، إذ تبلورت هذه المقاربات في أمرين التدخل العسكري المباشر تحت مظلة دولية من مجلس الأمن والتحالفات العسكرية الفرنسية مع عدد من الدول الأفريقية وأهمها تحالف G5″”.
ويمكن القول إن التقويم الأفريقي العام لنتائج المقاربات الغربية في القارة خلال الـ 40 عاماً الماضية كان سلبياً، خصوصاً مع شكلانية التمسك بالتطور الديمقراطي الأفريقي، وهو ما ظهر جلياً في الموقف الفرنسي من التطورات غير الدستورية في تشاد، واستمرار آليات النزح لثروات القارة بعوائد مالية غير عادلة لاقتصادات دولها.
وهذا التقويم الأفريقي السلبي للغرب يمكن رصده بسهولة من خلال مسارات وحوارات المؤتمرات الفرنسية الأفريقية سواء في مؤتمر منظمات المجتمع المدني الذي عقد خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، أو في مؤتمر الشباب الصيف الماضي، وهما آليتان لجأت إليهما باريس بهدف تحسين صورتها وتجاوز مشكلاتها مع عدد من الدول الأفريقية، أبرزها الجزائر ومالي التي وصل فيهما التلاسن إلى مستويات غير مسبوقة، وكشفت عن حجم الخسائر الفرنسية في أفريقيا.
في المقابل، يبدو أن روسيا خلال العقد الأخير حققت تقدماً كبيراً في مسألة توسيع نفوذها بالقارة عبر شركة “فاغنر” الأمنية الروسية، التي توجد أدلة على علاقة عضوية بينها وبين روسيا من حيث الدعم اللوجستي أو الفني العسكري، وقد نجحت “فاغنر” في تأسيس ناجح لوجودها عام 2018 من منصة أفريقيا الوسطى حيث تعاقدت مع الرئيس فوستين أرشانج تواديرا لدعم قدراته العسكرية في مواجهة “ميليشيات السليكيا”، وتم اختراق هياكل السلطة الرسمية في أفريقيا الوسطى عبر تعيين الروسي فاليري زاخاروف مستشار الأمن القومي للرئيس تواديرا، وقد وفرت هذه البيئة لروسيا أن تقود اتفاقاً للسلام بأفريقيا الوسطى عبر تفاهمات مع الرئيس المخلوع عمر البشير، إذ تم عقد الاتفاق بين الأطراف المتحاربة في أفريقيا الوسطى بالخرطوم عام 2018.
هذا النجاح لشركة “فاغنر” يؤمن لها حالياً انتشاراً عسكرياً في10 دول أفريقية، بينها السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو وموزمبيق وربما في الكونغو الديمقراطية، طبقاً لتقديرات وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، لكن المؤكد أن فاغنر تنشر في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان وموزمبيق لأهداف متنوعة طبقاً لمتطلبات كل بلد، ومن ذلك تدريب الجيوش المحلية وحماية كبار الشخصيات أو مكافحة الجماعات المتمردة أو الإرهابية، وحراسة مناجم الذهب والماس واليورانيوم وحقول الطاقة من نفط وغاز.
أما على مستوى التسليح الروسي للدول الأفريقية فنستطيع أن نرصد واردات لها لكل من الجزائر ومصر كأعلى سجل للمشتريات، إذ تسجل الأولى ما يزيد على أربعة مليارات دولار بقليل، بينما تسجل الأخيرة ما يقارب ثلاثة مليارات دولار، وتأتي بعد ذلك أنغولا في المرتبة الثالثة بواردات تقدر بنصف مليار دولار، طبقاً لمؤشرات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام عام 2019، هذه اللائحة من المشتريات الأفريقية للأسلحة الروسية تضم أيضاً نيجيريا وروندا ومالي وموزمبيق، فضلاً عن الكاميرون وجنوب السودان وبوركينا فاسو التي وقعت فيها آخر الانقلابات الأفريقية.
اتساع النفوذ الروسي في أفريقيا يقدم لنا تفسيراً بشأن إقدام دولة مثل مالي على التعاقد مع شركة “فاغنر” الأمنية الروسية، في محاولة لملء الفراغ الأمني المترتب على الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي وإعادة التموضع بدول الساحل في وقت تعاني مالي ودول الساحل تصاعد المهددات الأمنية الناتجة من الإرهاب.
وأقدمت مالي أيضاً على المطالبة بمراجعة الاتفاقات الدفاعية مع باريس وطرد السفير الفرنسي منها في يناير الماضي على خلفية تصريحات وزير الخارجية الفرنسي إيف لودريان أن المجلس العسكري المالي لا يتمتع بشرعية.
في سياق مواز فإن اعتراف نائب رئيس المجلس السيادي السوداني بسيادة جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك واستقلالهما عن دولة أوكرانيا يؤكد الانتباه العام من القوى الشمولية بإمكان الاستفادة من روسيا في هذا التوقيت في مواجهة الضغوط الغربية، إذ إن هذا الاعتراف السوداني بسيادة الإقليمين الأوكرانيين قد ينتج منه حصول حميدتي على طائرات درون روسية، خصوصاً أن زيارته لموسكو ممتدة، وهو الأمر الذي قد يتسبب بخلل في توازنات القوى بين القوات المسلحة السودانية الرسمية، وقوات الدعم السريع التي يمكن أن تتحول بسهولة في ضوء هذا الخلل إلى نماذج مثل الحوثي أو “حزب الله” في المعادلة السياسية السودانية الحرجة أصلاً، مع ميزة تفضيلية لقوات الدعم السريع التي يمتد نطاقها القبلي “قبيلة الرزيقات” حتى أقصى غرب أفريقيا، وهو مما يعني في التحليل الأخير التأثير بالأمن الإقليمي الأفريقي، فضلاً عن استقرار كل من تشاد والسودان بالأساس.
في هذا السياق فإن اتساع النفوذ الروسي في أفريقيا يبدو متوقعاً وهو ما قد يؤثر في معادلات سد النهضة على نحو ما، إذ إن التحرك الروسي إزاء إثيوبيا بالدعم خصوصاً في مجلس الأمن تبدو له دوافع واضحة في الضغط على كل من مصر والسودان لإعطاء مساحة أكبر لتفاعلهما مع روسيا، وعلينا أن نلاحظ في هذا السياق أن أحد أصدقاء موسكو المقربين وهو رئيس كازاخستان تواصل مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي بخطاب مرسل للقاهرة من جانب بوتين بعد يوم واحد من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. لكن في تقديرنا أن الضغط الروسي على كل من القاهرة والخرطوم لن يكون ناجحاً إلا إذا مارست أديس أبابا نفسها نوعاً من التموضع الدولي الذي يتيح لموسكو مساحة عمل ونفوذ في القرن الأفريقي، وهو ما يبدو غير واضح للعيان حتى اللحظة الراهنة.
الشاهد أن البيئة العالمية والإقليمية تتجه نحو متغيرات مهمة وأساسية ربما يكون من شأنها التأثير بشكل سلبي على طموحات الشعوب الأفريقية في تأسيس دول حديثة تكون فيها آليات تغيير السلطة سلمية، لا تعتمد على عنف الانقلابات العسكرية ولا على نخب حاكمة تتجه نحو الشمولية كنموذج باتت توازنات القوي العالمية في غير صالحه.
في هذه البيئة الصعبة ربما يكون على الشباب الأفريقي ضرورة تفهم هذه البيئة المتوقعة وبلورة صيغ التعامل معها في إطار سعيه المتواصل إلى تحديث الدول الأفريقية، وتأسيس نماذج الحكم الرشيد بها وهو أمر يتطلب ربما حديثاً منفصلاً.