كتبت في تاريخ انفصال جنوب السودان .. 7 يوليو من العام 2011 بصفحتي في الفيس ..
هل ما يحصل الآن هي المرحلة الإستراتيجية الثانية لتفتيت بلادنا العزيزة .. وهل ستمارس علينا سياسة الجزرة والعصا مرة أخري .. أليس بيننا رجال يتمتعوا بالرشد والوطنية حسبنا الله ونعم الوكيل .. الله في ..
لم اكن أقصد أن أحجز مقعدا لي في (الرحلة الاخيرة) للخطوط الجوية السودانية رقم 310 بتاريخ 7/7/2011م والمتجهة الي مدينة (جوبا السودان) ليسجلها التاريخ بأنها آخر سفرية (داخلية) للخطوط الجوية السودانية (في عصرنا المعاش)، ولتبدأ بعد هذا التاريخ (9/يوليو/2011م) رحلاتها الدولية الي مدينة جوبا – عاصمة جمهورية جنوب السودان (الجديد).
وصلت مبكراً الي (صالة الحجاج ) بمطار الخرطوم التي تستغل هذه الايام كصالة مغادرة للسفريات الداخلية وجدتها .. مكتظة بإخوتنا من جنوب الوادي يحملون حقائبهم للتوجه جنوبا للاحتفال بدولتهم الجديدة… عند دخولي صالة المغادرة الداخلية – لا شعورياً بدأت بالنظر حولي بشئ من الرهبة (رهبة الشعور بالفراق لاخوة عاشوا بيننا وعشنا بينهم لعقود طويلة)… وأنا أتجول بنظري يمنة ويسرا بشئ من الفضول أتفقد أخوة لي لطالما كان شعوري نحوهم بأنهم قد ظلموا من قبل الاستعمار(قانون المناطق المقفولة – المخطط له) ومن حكومات الحقب السابقة في التنمية وفي التعليم والعلاج وفي السلطة والثروة ، وحتي دعوتهم للإسلام وتنويرهم بالدين الحق والدعوة اليه ( بالصورة الصحيحة ) قصرنا فيها ( تذكرت لقاءنا بالأخ عابدون أقاو الامين العام لحكومة جنوب السودان قبل عامين تقريبا… عندما كنا في زيارته (لرتق العلاقة المتوترة بيننا والحركة الشعبية في الماضي )…وفي سياق حديثه الصريح معنا ذكّرنا بأنه لوكانت هنالك دعوه إسلاميه بطريقه صحيحه في الفترات السابقه منذ الاستقلال… لأصبحنا جميعا مسلمين (أى أخوتنا في جنوب الوادي)…. حيث كانت (طريقة) الدعوة للمسيحية هي الصحيحة والغالبة… كان يتم تشييد مدرسه لنا (لتعليمنا) وتشيد بالقرب منها مشفي (لعلاجنا) وبينهما كنيسه (للصلاة) … فهل يا تري عندما يحين موعد الصلاة سأذهب للمسجد؟ ،، أم للكنيسة ؟ الكنيسة التي كانت تهتم بإنسانيتنا وبحقوقنا؟ علما بأن أغلبيتنا لم تكن لديه أية ديانة أصلا يعتنقها وعقّب بقوله لو كنتم دعوتمونا علي هذا النحو لاصبحنا جميعا مسلمين في الجنوب مع العلم بأننا عرفنا الاسلام فقط بمعاشرتكم في الشمال.
نعم …. لم نعاملهم كما أمرنا الله سبحانه وتعالي بحفظ حقوق الانسان التي وردت في (كتب الله) بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون… الحقوق المكفوله للانسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالي وميَّزَه فجعله أعزَّ خلقه وحرَّرَه من كل خوف أو خُضوع أو تحكم فالخضوع والعبودية لا تكون إلا لله الوآحد القهار فالحقوق في النظام الاسلامي (الذي يدعوه) ليست حقوقا طبيعية بل هي (منحه إلهية) تستمد من الشرع فالله الذي خلق الانسان ومنَحَه حق الحياة وكرَّمَهُ وفضَّلَهُ علي جميع الكائنات الحيَّة ، وخلق فيه (الإراده) حيث جعله مسئولا عن هذه الإراده وما يصدر عنها من تصرفات ويستشهد علي ذلك بقوله تعالي (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ) .. وحرَّم من يتعامل مع الانسان بغير(الحق) .. والحق في عُرف الفُقهاء يعني ما ثبت في الشرع لله تعالي علي الانسان أو للإنسان علي غيره (فهو نقيض الباطل ) قال تعالي: ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) قال تعالي : ( يأهل الكتب لم تلبسون الحق بالبطَل وتكتمون الحقَّ وأنتم تعلمون ) .. وعندما ندعوهم بالحق والحسني (للحق) فلهم حرية الإرادة في اختيار الحقيقة أو الوهم والخير أو الشر (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفُر) صدق الله العظيم.
…. أتذكر ذلك .. وأنا أتفحص الوجوه التي أمامي وأجول بِخاطِري …أفِقت للحظات برائحه (الخُمره) السودانية الاصيله التي عطَّرت المكان .. وجدت أمامي سيدة من جنوب الوادي تتعطر بعطرنا الشمالي المعروف وبثوبها الانيق وهي تحمل حقائبها .. وأطفالها الثلاثه يملأون المكان ضجيجا ولَهواً …راقبتها …وهي تحلق في عالم بعيد لم أتبين ملامحه هل هو قلق من مصير مجهول لا يمكن رؤيته ؟ أم فرح لم يكتمل بعد ؟، في انتظار 9/7 تاريخ ولادة دولتهم الجديدة ؟… تمنيت في هذه اللحظه أن أغُوص في أعماقِها وأتحسس مشاعرها التي لاتبدو علي وجهها .. أهلنا بيقولوا ( ما بتعرف قيمة الشيء الا بعد أن تفقده ..) بعد (الفقد) نبدأ دائما في لطم الخُدُود ونقول ياريتنا لو عاملناهم ( فقط) كما أمرنا الله سبحانه وتعالي في كتابه الكريم .. ودعوناهم بالحسني للسبيل القويم .. ونشر الخير والصلاح .. ووسعناهم (بمكارم الأخلاق والمعاملة الكريمة .. ورعيناهم اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا… و كما أوصانا المصطفي (ص) وياريتنا لو عاشرناهم بالزواج والانساب وزوجناهم وتزوجنا منهم .. لرتق لحمتنا السودانية .. ونشرنا دعوة الخير .. وعمرنا الارض في باقي أفريقيا التي بدأها وعمل من أجلها الاجداد .. وياريتنا .. لو قسمنا السلطه والثروة والتنميه قبل أن يطالبوا بها ( ويحاربوا من أجلها) …وياريتنا لوعرفنا كيف ندير (نعمة التنوع ) التي وهبنا الله لها ( بعقلانية وياريتنا … وياريتنا …كل ذلك يَمُر بخاطري وأنا أتفحص وجوههم كأني أراهم لأول مرة ولآخر مرة…
إذا بالمذيع الداخلي لصالة المغادرة يعلن عن قيام .. رحله الخطوط الجوية السودانيه رقم 310 المغادره الي ( جوبا السودان) .. لاحزم حقائبي مع الجميع لاجلس علي أول كرسي بالباص مع كامل الاستعداد للتنازل عنه لأول سيده تحمل طفلها أو رجل أو سيدة مسنة تصعد الباص (كعادتنا دائما ) وكان نصيب الكرسي لنفس السيده التي كانت تجلس أمامي).
الطائرة بالمدرج علي وشك الاقلاع .. قررت أن أتنفس بشهيق وزفير عميق وأشارك (بالكتابة) في هذا التاريخ (الحزين) والمستقبل المجهول .. علني أغرس شئيا في النفوس وأعبر عما يجول في خاطرهم وخاطري وأشاركهم الأحزان ورهبة المستقبل المجهول للشمال والجنوب الجديد (معا) لعلي (أحرك ساكناً) لخمسه وثلاثون مليون نسمة (وزعمائهم الذين يغطون في نوم عميق ) .. نستطيع بعدها المشاركة والعمل معاً علي تغيير المستقبل إلي الأفضل وندعو الله جميعا كأضعف الايمان أن يجعل كل ما يحدث خيرا نتعلم منه الدروس ونستلهم منه العبر لبناء مستقبل واعد للأجيال (المظلومة) القادمة التي أورثناها الدمار والخراب والاقتتال والتفتت.
وعلي ارتفاع 31 الف قدم، كابتن الطائرة بدأ في الإعلان عن بداية الهبوط التدريجي الي مطار جوبا السودان.
لا شعوريا .. سألت نفسي لماذا حزمت حقائبي للسفر الي مدينة جوبا ؟
هل لأحتفل مع أهلي في الجنوب لتحقيق حلمهم في دولتهم الجديده ؟.. أم للمشاركة مع وفد الحزب في دفن رفاة عضو ( مهم وغالي ) من جسدنا ( نحس به) ..نتالم اذا أصابه مكروه ونسعد بسعده ؟
أم لحضور مراسم الدفن .. وتقديم واجب العزاء والمواساة .. لنشعر هذا الجزء من جسدنا بأننا نتألم لفراقه ونقدم (اعتذارنا) له بالإنابة عن الذين قرروا وصرحوا بانهم سيحجبون الدواء والعلاج منهم .. كما قال المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال – فليسعد النطق ان لم يسعد الحال ( وبعد أن تيقن له بأن الروح والحياة أو حتي الطمانينه لن تصله منهم – قرر بتر نفسه )
وهل من الممكن زرعه مرة أخري ليواصل دورته الدموية؟ …
جميعاً نطمح ونعمل من خلال هذه الزيارة الصادقة الحزينة .. في هذا التاريخ الذي سيسجله التاريخ بلون (مجهول) حزين ، وبمشاركتنا (في هذا اللون الحزين) الذي يسْعَد فيه أخوة لنا ونتألم فيه نحن .. بأن نحاول ونبذل كل ما يمكن للاحتفاظ ( بشرايين الاخوة) .. حتي يواصل الدم تدفقه فيها .. و نتمكن من زرعه يوماً مرة أخري وإعادته جزء أصيلا منا (عاجلا أم آجلا) .. بمعاونة وإرادة (جيل جديد) يؤمن (بالعدل) والحق والخير والأمل .. ليعيد البسمة الصادقة التي افتقدها (الأهل) كثيرا في هذا الزمن الاغبر بخيبتنا وتقصيرنا (جميعا) فيما ينفع الناس .. وتعمير الأرض بالصدق والحق والقِيَم واعادة سودانيتنا (المنتزعة منا) لنعلوا مرة أخري ونرفع الرأس بين الأمم.
كابتن الطائرة يُعلِن مغ إشارة ربط الأحزمة استعداداً للهبوط… وأنا ما زلت ألاوم وأجاهد نفسي بأضعف الايمان .. وأتساءل لماذا لا يعمل الجميع بصدق علي أن لا يكون طرفاً اصطناعيا .. نلبسه فقط وقتما نشاء .. ونخلعه وقتما نشاء…ولاننسي بأن هنالك غيرنا في (جنوب وشرق) جنوب السودان الجديد من الذين يحسبونها جيدا (لن يتركوه لنا ) ويوفون المطلوب (سيلبسونه هم) والاستفادة من خيراته ( ونخسر نحن) ما زرعه وخطط له الأجداد.
أم هل كل ما أقوله … لطمأنه نفسي بأن زيارتي للجنوب فيها طابع (العمل الخاص) للإشراف علي عملي بمطار جوبا في هذا الكم الهائل من الطائرات الرئاسيه والوفود الدوليه الواصله في يوم وآحد للمطار الذي لم يتعود علي هذا الازدِحام ؟
أم لأتواري داخل المطار (حرجاً وخجلاً) ؟ .. (وأعاين من بعيد) نتيجة (جُرم جرَّهُ سُفَهاء قوم وحلَّ بغير جارمه العذاب) كما قال ( المتنبي )… نتيجه لممارسات سياسيه واجتماعية (مريعه) مارسها بني جلدتي من قبائل (الهنود الخضر) .. الناهين عن المعروف .. والآمرين بالمنكر)!!!! وزعمائهم الذين (تتابعوا) علينا بإختطاف الحكم عُنوةً من الذين (فوضهم الشعب … ودكتاتوريتهم .. وعنادهم .. الذي تضرَّرنا منه كثيرا وسيتضرر منه (الباقي لينا) ونصيحة (لهم) وأقولها صادقاً .. كل الذي (فعلتموه) و(تفعلونه) سيكون (بدون مقابل) ولن تكون هنالك جزره كما (ظَننتُم) بل عصا (تغلظ) بعد كل تنازل .. ومازل جراب الحاوي ملي (بالتنازلات) وسترون ذلك (مستقبلاً) اذا واصلتم العناد والظن (وما يتبع أكثرهم الا ظنا ان الظن لا يغني من الحق شيئا) .. (دعونا ألا نبحث عن العيب بل نبحث لعلاج له وأن لا ننعل (الظالمين) والظلام .. بل نوقد شمعة لننير الطريق لنا و(للأجيال القادمة) وللآخرين وننشر العدل (بعملنا) وبمشيئة الله.. (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ..) عندها دعوت ربي بأن يسلمنا .. ومع دعوتي (سلّمنا الله) وهبطت الطائرة بسلام في مطار (جوبا السودان) ليسجلها التاريخ كآخر رحلة داخليه تهبط في مطار جنوب (السودان الموحد ) .
قال تعالي : (ولتكن منكم أمة يدعون الي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) صدق الله العظيم.
عادل المفتي – 7/7/2011م
جوبا السودان.