كلمات في ذكرى تحرير الخرطوم
د الصادق الهادي المهدي
تمر علينا اليوم 26- يناير ذكرى تحرير الخرطوم. إنه اليوم الخالد في حياة شرفاء العالم مثلما هو خالد في ذاكرة أمتنا. ففي مثل هذا اليوم من عام 1885م، تحرك أهل السودان بكل سحناتهم وألسنتهم ولهجاتهم وقد حملوا كرامتهم ومهجهم في اكفهم لتحقيق هدف غال وهو تحرير السودان من الذل والاسترقاق والاسترخاص والتبعيه والإلحاق والعبوديه.
كان غردون يجسد تلك المعاني ولكنه فت الثوار عضده بالحصار كما أشرت في مقال سابق. وفي هذا اليوم غردون استنفد كل حيله ووسائله بما فيها استخدام الأسلحة البايولوجية كالجدري. مثلما استنفد مبرر الحوار معه. كان غردون مريضا بجنون العظمة ولديه ميل لتصديق ظاهرة الشخص البطل، ولا شك أن بلاده صنعت منه صورة أسطورية قاهرة للشعوب المغلوبه. وبسبب تلك الحالة المرضية افتقد غردون الصِّلة بالواقع وافتقد كل مقومات المنطق والتفكير العقلاني وخاصة برفضه لكل المطالبات والمكاتبات بالاستسلام.
بالطبع حاولت كتب الدعاية البريطانيه أن تجعل منه قائدًا نبيلاً ورأينا بعض المستلبين يبدد كل وقته وجهده لهجاء تاريخ من حرروا الخرطوم من غردون. وكم كان المؤرخ عبدالمحمود ابوشامة صادقًا في(من ابا الي تسلهاي) عندما قال (إن الانجليز قد فاقوا العالم في مناحي عده لاجدال عليها ، ابرعها طمس التاريخ وتزويره. )
تورد كتب التاريخ الرصينه ، صوراً ومشاهد تبدو طرية عن ذكرى تحرير الخرطوم. ومن بين السطور نرى في مسرح وطني يضج بالتهليل والرايات وهي تتدافع وتخفق لتزحف نحو قلب الخرطوم.
وبينما كان غردون ينتظر حملة الانقاذ فقد اضحى انتظار الحملة اشبه بانتظار غودو الذي لن ياتي ابدا، لان ابطال معركة ابو طليح بقيادة الامير موسى ود حلو والحاج ود سعد والشيخ محمد الخير قد احكموا الحصار على حملة الانقاذ وتم تكبيد الحملة خسائر في قادتها وجندها وكسر الامير موسى ود الحلو مربع الجيش الانجليزي وعطل تقدم الحملة ولهذا عندما شارفت الوصول للخرطوم وجدتها قد غسلت ادناس الاستعمار فعاد من تبقى من الحملة يجرجر اذيال الهزيمة.
وفي تزامن مع معركة ابو طليح كانت خطة تحرير الخرطوم تمضي على قدم وساق .
فمن جهة شرق النيل الأزرق تبرز رايات أنصار الدين وهم يرفعون أصواتهم بالتهليل والتكبير ، بقيادة راية الشيخ العبيد ود بدر الذي منذ أن كلفه الامام المهدي اميرا على تلك الجهة سد الفرقه ونافس مع حبيبه المضوي عبد الرحمن في حصار غردون. ثم نقرأ أن الأوامر جاءت للأمراء في حوالي الثالثة صباحا. ونتابع كل أمير يقرأ رسالة الإمام المهدي ووصاياه. ثم نتابع أول المتحركين راية الشيخ الأمير إبراهيم ود بدر الذي توجه من فوره إلى حامية الحلفاية وحررها دون مقاومة.
ثم جاءت الأخبار من جهة النيل الأبيض، وقد انفتح المشهد والإمام المهدي عليه السلام يعبر النيل الأبيض ومعه قوة هائلة. ونميز من الرايات الزرقاء بقيادة الأمير يعقوب جراب الرأي ونرى خليفة الصديق الخليفه عبد الله مثلما نلمح الخليفه شريف ونحدق في جباه أمراء الرزيقات بقيادة الامير موسي مادبو وأمراء الزغاوة بقيادة الامير الطاهر إسحاق الزغاوي وأمراء الزياديه والمعاليا والأمير سيماوي ود أمبدا من دارحامد والأمير ود قريش من الكبابيش وأمير ود نيباوي ومعه فرسان بني جرار. ومن المسيرية نرى الامير علي الجلة وليس بعيداً نرى أمراء الهبانيه وبني هلبه وأمير وفرسان المساليت وفرسان الفلاتة بقيادة الأمير الفقيه الداداري ومن قبيلة الكواهلة نرى الفرسان بقيادة الامير جادالله ود بليلو.كما نرى فرسان كنانة ودغيم والحسنات والعمارنة ودويح ونرى الأمير بابكر ود عامر وود مدرع والفقيه سعيد الدويحي من النيل الابيض.
ومن بعيد نشاهد راية الامير عبد القادر ود أم مريوم والامير المجاهد محمد الطيب البصير، وهو يقود فرسان الحلاويين والأمير الشيخ عبدالرحمن القرشي ود الزين. ونشاهد فرسان الشكرية بقيادة الشيخ عبدالله عوض الكريم أبوسن وفرسان العركيين بقيادة الامير ادريس ود الشيخ مصطفي العركي وليس بعيداً منهم يقف الامير محمد الأمين ود أم حقين من جهة الشمال الغربي للخرطوم بينما يحاصر الامير احمد ابو ضفيرة وأهلنا الجموعية والفتيحاب الخرطوم من جهة الجنوب.
ومن على البعد نشاهد أمير البرين والبحرين أبي قرجة وقد شرع يرتب الصفوف ويختار قاده إقتحام قصر غردون. ونرى في ذات المسرح الأمير عبد الرحمن ود النجومي وقد عاد من حرب الدائر ومعه قوة ضاربة من المقاتلين الذين يتجاوز عددهم الأربعة آلاف مقاتل. ونرى حصان أمير البرين والبحرين أبو قرجه وهو يركض نحو الأمير عبد الرحمن النجومي قائد عام الراية الحمراء. لابد أن أبي قرجة نور ود النجومي بآخر ما لديه من خطة الاقتحام. ومن جهته أطلع الأمير ود النجومي كل أمراء الراية الحمراء على رسالته لغردون وقرأ لهم منها (إعلم انني ود النجومي امير امراء جيوش المهدية الملقب بسيف الله المسلول وفاتح كردفان والدائر وقد جئتك بجيوش لا طاقة لك بها ومدافع لا قدرة لك علي احتمالها فسلم تسلم ولا تسفك دماء العسكر والاهليين بعنادك والسلام).
ثم ساد صمت مهيب فتليت على الجميع وصية الإمام المهدي (إذا نصركم الله .. الغردون لا يُقتل .. الفقيه محمد الامين الضرير لا يُقتل.. كل من استسلم ورمي سلاحه لا تقتلوه.. كل من أغلق باب بيته عليه لا تقتلوه )
ونسمع الإمام المهدي وقد رفع سيفه في اتجاه الخرطوم وكبر ثلاثًا وأعلن تحرير عاصمة البلاد. وهكذا نرى سماء الخرطوم وهي تضج بالله أكبر ولله الحمد. والدين منصور. وقد غطتها الرماح والنبال وأصوات الخيل.
لم يمضي من الوقت الكثير حتى اقتحم الثوار قصر غردون وتجاوزوا ترسانته وتم القضاء عليه. وغسلت الخرطوم وجهها وتحرر السودان. ورفع علم التحرير لأول مرة ومعه ورفع كل سوداني هامته عاليه شامخه، مع الحمد والشكر لله. ولهذا عندما نحتفى بذكرى هذا اليوم فلأنه يمنحنا الأمل والوقود والعزة ويلهمنا الدروس بأننا تحررنا حين كانت الشعوب في المحيط السوداني ترزح تحت نير الاستعمار وقهره. ونحتفي بالذكرى لأن الثورة المهديه تلهمنا هذه المعاني مثلما هي ملهمه لشعوب العالم. والعبرة من استعادة هذه الذكرى ان الإرادة والدافع والدوافع والتخطيط السليم والعزيمة والاستفادة القصوى من الوقت كانت جوهر الثورة المهدية إذ أن الثورة المهدية منذ انطلاقتها في ابا ١٨٨٢م حتى تحرير كل السودان بما فيه الخرطوم في يناير ١٨٨٥م لم تتجاوز ثلاثة سنوات وهذا إنجاز اقرب للمعجرة او هو كذلك.